علياء أحمد – باحثة وناشطة نسوية
لا يمكن في مقال واحد الإحاطة بتاريخ الحركة النسوية السورية، لذا سقتصر هذه المحاولة على تناول بعض محطّات هذه الحركة عبر تاريخها العريق، منذ بدء الحركة النسائية في سوريا العثمانية.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت أقلام نسائية سوريّة مبدعة، مثل الرائدة ماريانا مراش (1848-1919)، التي سافرت إلى أوروبا وتأثرت بنمط الحياة الثقافية الأوروبية، وعادت لتفتتح صالوناً أدبيّاً شهد نقاشات ثقافية وسياسية غنية آنذاك. وعرفت تلك المرحلة العديد من السوريّات الناشطات، شارك بعضهنّ في المؤتمرات النسـوية الدولية على مستوى العالم، لكنّهن لم يكنّ معروفات في الأوساط الثقافية العربية، كالناشطة الاجتماعية هَنا كسباني كوراني (1870 – 1898)، أول امرأة عربية تشارك في مؤتمر شيكاغو سنة 1893، وعلى مدى عامين أمضتهما هناك، قدّمت خطابات ومحاضرات نالت اهتماماً واسعاً في الإعلام الغربي، سعَت من خلالها إلى تصحيح الأوهام والأفكار المغلوطة والنابعة من منظور استعلاء استعماري عن النساء الشرقيات.
المشاركة في المؤتمرات الدولية، ومنها المؤتمر النسائي العام في لندن سنة 1899، ومؤتمر المتطوعات في كندا سنة 1903، أتاحت للنساء العربيات عموماً والسوريات بشكل خاص، الاطّلاعَ على قضايا المرأة الغربية وخطاباتها، فانتقلت فكرة تنظيم النساء والمطالبة بحقوقهنّ إلى المشرق العربي. وازدادت تباعاً الأقلام النسائية، من بينهنّ زينب فواز، وماري العجمي التي أصدرت مجلة العروس، وهند نوفل مؤسسة مجلة الفتاة، وكثيرات أخريات طرحن قضايا حقوق النساء.
وتبادلت أديبات بلاد الشام الأفكار والسجالات، متفاعلاتٍ مع الحراك النسوي العالمي، قبل اتفاق سايكس بيكو وتقسيم المنطقة العربية، ولم يحُل بدء الإنتدابات دون استمرار النساء السوريات في المطالبة بحقوقهن ورفع الصوت النسائي عالياً. وكان للنساء مشاركات غير مسبوقة في النضال ضد الاستعمار، مثل عادلة بيهم الجزائري ونازك العابد التي لُقّبت بـ”جان دارك السورية” وخطّت مسيرة نسوية نضالية فريدة. ويمكن القول، إن نشاط السوريات ونظيراتهنّ اللبنانيات والمصريات في تلك الفترة وضع أسس الموجة النسوية السورية والعربية الأولى، لكنّ ذلك جاء مع انتهاء الموجة النسوية الأولى العالمية، ما بين الحربين العالميتين، ودخولها فترة كمون نسبي.
مطلع عام 1930، استضافت دمشق المؤتمر النسائي الشرقي، برئاسة نور حمادة، إحدى أبرز القيادات النسوية على الصعيد السياسي والعالمي. شارك في المؤتمر وفود عربية ودولية، ومن القضايا التي ناقشها “نشر العلم بين النساء، القضاء على زواج الصغار وتحديد سن الزواج، إبطال تعدد الزوجات، تعديل قانون الطلاق وجعله موافقاً لروح العصر، نزع الحجاب تدريجياً مع مراعاة المستوى التهذيبي، وإصلاح حال المرأة اجتماعياً ومدنياً وسياسياً واقتصادياً”. وتتالت المؤتمرات، وازداد عدد الجمعيات النسائية التي انحصر نشاطها في أوساط نساء الطبقة الارستقراطية المتعلمات والمتحررات، مقارنة بعامّة النساء في المجتمع، مما جعل تأثيرهنّ ضعيفاً جداً على أرض الواقع، وخاصّة في ظل الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تشهدها البلاد.
بعد الاستقلال، استمرت النساء السوريات في نضالهن، وأنشأن الاتحاد النسائي العربي برئاسة عادلة بيهم الجزائري، إلى جانب الجمعيات النسائية ذات الطابع الاجتماعي. كما ظهرت أصوات تطالب بالحقوق السياسية للنساء، وهو ما تبنته جمعية “نساء العرب القوميات”، وفيها نشطت ثريا الحافظ التي اخذت على عاتقها النضال من أجل نيل حق التصويت والانتخاب والترشيح للمرأة. وفعلاً، حصلت النساء السوريات على حق التصويت، بعد انقلاب حسني الزعيم عام 1949، أي قبل نظيراتهن في العديد من الدول الأوروبية، وترشّحت ثريا الحافظ للانتخابات النيابية 1953، لكنها لم تفز لأن المجتمع كان بعيداً عن منح الثقة للنساء بعد.
تعطيل الحريات العامة خلال حكم العقيد أديب الشيشكلي، أثّر سلباً على عمل الجمعيات والناشطات النسائيات، وحدّ قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة من حرية عمل الجمعيات، فلم تُمنح تراخيص جديدة، وبدأت مرحلة جمود ثقافي وسياسي، في وقت كانت الموجة النسوية الثانية تنطلق بقوّة في الغرب، على تنوع تياراتها وصراعاتها الفكرية والفلسفية. وازدادت القيود على حرية النسويات السوريات (وإن لم يكن قد شاع استعمال المصطلح بعد)، بوصول حزب البعث إلى السلطة، لا سيما بعد الانقلاب البعثي الثاني عام 1966، وتأسيس الاتحاد النسائي عام 1967، كـ”منظمة شعبية لنساء الجمهورية العربية السورية”.
جمدت السلطة البعثية أنشطة الجمعيات النسائية وهمّشتها بشكل ممنهج، ومع انقلاب حافظ الأسد عام 1970 انطفأت أية بارقة أمل في تطور الحركة النسوية السورية، أو مواكبتها لتيارات الحركة النسوية العالمية، وانكفأت كثير من الناشطات النسويات وغادر عدد منهنّ البلاد، كثريا الحافظ التي هاجرت إلى مصر بعد اغلاق منتداها.
تصدّر الاتحاد النسائي، بأيديولوجيته البعثية، المشهد النسائي في سوريا لخمسين عاماً، كرسّ خلالها الصور النمطية والأدوار التقليدية للمرأة في المجتمع إلى أن ّجرى حلّه عام 2017. أما المنظمات التي استمرّ عملها، فلم يحصل معظمها على الترخيص، وبقيت تحت سيطرة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي أعاقت أي أنشطة خارج المنهج البعثي. رغم ذلك، واصلت النساء الناشطات وبعض الجمعيات المطالبةَ بحقوق النساء، ضمن الإمكانيات المحدودة المتاحة، دون أن يكنّ حُرّات في الوصول إلى الفئة المستهدفة من النساء.
لاحقاً، وجدت الناشطات في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سوريا، كاتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، واتفاقية حقوق الطفل، نافذة للتواصل مع بقية الهيئات والمنظمات الدولية، ومن ثمّ المشاركة بشكل محدود في بعض المؤتمرات النسوية العالمية، وبدأت أفكار الموجة النسوية الثانية تجد صدىً لدى بعضهنّ. مع هذا، فإنّ الكثير من الطروحات النسوية الجديدة التي بدأت تتطور في العالم بشكل ملحوظ، ظلّت محدودة التداول في سوريا، نظراً لبقاء أوضاع النساء السوريات مُحنّطة، كبقية أشكال المشاركة السياسية والثقافية، في بلد تحكمه قبضة أمنية وأيديولوجية، تتاجر بشعارات الحرية والعلمانية الزائفة.
بقي هامش الحراك النسوي محدوداً، وأي تجاوز غير مقبول يُعرّض الجهة المسؤولة عنه للتضيق الأمني، أو حتى لإغلاق الجمعية وسحب ترخيصها إن وجِد. ولم تطرح الأحزاب السياسية، سواء العلنية الملتحقة بالسلطة أو أحزاب المعارضة السرية، أي برامج عمل تتعلّق بالمرأة وحقوقها وحرياتها، واقتصر الأمر على جمل إنشائية عمومية في وثائق بعض الأحزاب. ولم تتواجد النساء في المراكز القيادية إلا ما ندر، بل إن كثيراً الحزبيات تبنّين مبادئ أحزابهنّ الأيديولوجية، متجاهلاتٍ عدم مساواتهنّ برفاقهنّ، وانتقاص حقوقهنّ وحقوق غيرهنّ من النساء. هكذا اقتصر نشاط النسويات على مطالبات حقوقية، لم تحظَ بالانتشار الكافي أو الوصول إلى المجتمع، على أهميتها، كمناهضة جرائم الشرف، والمطالبة بحق المرأة في منح جنسيتها لأطفالها، وتعديل قانون الأحوال الشخصية.
يمكن القول أن الأوضاع السابقة حالت دون مواكبة الحركة النسوية السورية لما كانت تشهده الحركة النسوية العالمية، بأبعادها المعرفية والفلسفية، فضلاً عن مآلات التيارات النسوية التي دخلت موجتها الثالثة والرابعة، فاقتصر الحراك النسوي السوري على الجانب الحقوقي المطلبي، مع الحرص على تجنّب الطروحات التي تثير “غضب” المجتمع أو السلطة. وكان لحالة الطوارئ المزمنة وانعدام إمكانية الحوار والفكر الحر، أن تزيد من سلبية المجتمع ولا مبالاته، رغم ارتفاع نسب التعليم وتحسن الأوضاع ظاهرياً، شأنه كبقية المجتمعات التي حكمتها أنظمة عسكرية تدّعي الاشتراكية، فيما يعمّ الفقر والتطرف الديني والطائفي.
بعد موت حافظ الأسد وتولي وريثه بشار السلطة عام 2000، نشط العديد من المنتديات الثقافية والسياسية لفترة قصيرة عُرِفت بـ”ربيع دمشق”، وشهدة انتعاشاً نسبياً في الحراك النسوي. لكن الربيع انتهى سريعاً بإقفال المنتديات واعتقال العديد من نشطائها، ليستمر الحكم البعثي الأمني في نهجه الإقصائي، في ظل تفاقم الفساد وتهالك الدولة ومؤسساتها، مما زاد من احتقان المجتمع إلى درجة الانفجار، في ثورة آذار 2011، لتدخل الحركة النسوية السورية مرحلة جديدة واعدة.
خرجت النساء السوريات في حراك نسويّ عفويّ وفطري، فتظاهرنَ لا ضد النظام السوري فحسب، بل في وجه كل النُظم الذكورية المُهيمنة، التي تقيد حرّيتهن، ولم يوقفهنّ استشهاد واعتقال كثير من المشاركات في الثورة. لكنّ الحال تغيّر بعد تحوّل الثورة إلى حرب، وهيمنة الصبغة الدينية عليها.
ومع هجرة ونزوح الملايين من السوريين إلى بلدان الجوار وأوروبا، بدأت تتبلور ملامح حراك نسوي جديد، وتأسّست مئات المنظمات والمبادرات والتجمعات النسوية، وبرزت أقلام نسوية جريئة في طروحات وابداعات جديدة، وأصبح كثير من الناشطات النسويات السوريات على تماس مع الحراك النسوي العالمي الذي بلغ موجته الرابعة، وأدّى ذلك إلى طرح مفاهيم نسوية جديدة على المجتمع السوري، واستخدام أدوات ومنهجيات لتيارات نسوية مختلفة. واستمر الواقع السياسي يعكس تحدياته على الحركة النسوية، فبقيت متشظية مكانياً وأيديولوجياً، تعترضها صعوبات متعدّدة، حيث تتباين مستويات الحرية والدعم المتاح تبعاً لمكان تواجدها والسلطة التي تقع تحت رحمتها، سواء على الأراضي السورية الموزّعة إلى مناطق تحكمها سلطات أمر واقع مختلفة، أو في دول الجوار أو البلدان الأوروبية. كما لعبت الانحيازات السياسية وثنائية “موالاة – المعارضة” دوراً في تشظي الهوية النسوية السورية، إضافة لتأثير أجندات الممولين والهيكلية البيروقراطية للجهات الداعمة. كما أنّ حالة اللجوء وتقاطع أشكال جديدة من العنف والتمييز على النساء اللاجئات وسوء أحوالهن، خاصة في الداخل السوري ومخيمات اللجوء، جعلت من إمكانية وصول المنظمات للمجتمع السوري عامة، وللنساء بشكل خاص، أمراً بالغ الصعوبة، لا سيما مع الحملات المعادية والمغالطات والاتهامات التي يشنها رجال الدين وغيرهم من سدنة المجتمع البطريركي، ضد النسوية والنسويات.
من المؤسف القول أن غالبية مطالب الحركة النسوية اليوم، في معظمها، تتقاطع مع توصيات المؤتمر النسائي الشرقي الذي انعقد عام 1930 في دمشق، أي أننا بعد قرن من الزمن ما زلنا نقف عند المطالب نفسها، إلى جانب مطالب تتعلّق بالحقوق الأساسية للبشر، فرضها واقع والعنف واشتداد الهيمنة الذكورية التي تواجه النساء، بدرجات متفاوتة، في كل مكان. لذا، ينبغي على النسويات والمنظمات النسوية العمل بجدّية لتجاوز الخلافات، وبناء رؤية نسوية تعطي هوية واضحة للحراك النسوي السوري بتياراته المتعدّدة، فالنسوية ليست منهجاً واحداً، إلا أن الظروف الراهنة تستدعي المزيد من المرونة، والبحث عن المشتركات لتعزيزها والبناء عليها.