ما من أحد منا لا يتذكر صوراً من العنف بكل أشكاله وصنوفه خلال حياته الدراسية ابتداءً من المناهج التعليمية التي وضعها وقام بصياغتها الفكر الذكوري وصولاً الى نظام الاستبداد الذي ركز جهوده لبناء مجتمع خانع مدجن مروراً بالمؤسسات التعليمية بكل ما تحتويه من العناصر والتي ساهمت في التعنيف.
من منا لا يتذكر الكادر التدريسي الذي ترتبط صورته بالعصا، وخرطوم المياه الذي كان يتفاخر كثُر من المعلمين به، وأن صورة ذاك المعلم لا تكتمل بدونهما، وكذلك (جب الفئران)، وقص الشعر، و(الفلقة) وهي الضرب على الأرجل بعد أن يجبر الطفل بالقوة على الاستلقاء على الارض أمام كل التلاميذ، تناله عبارات التوبيخ والألفاظ المؤذية. أما الأبنية المدرسية فلها طابع سلطوي قهري يتخذ ملامح متعددة ,فأولا من حيث هندستها وعماراتها نجد الأسوار المرتفعة وفوقها الاسلاك الشائكة والزجاج المكسور والأبواب الحديدية الكبيرة المحكمة الاغلاق, كما نجد غياب الالوان الزاهية الدافئة التي تعكس الحرية وحب الحياة والبهجة في مقابل الألوان القاتمة كالرمادي مع تدرجاته ومما لا شك فيه أن النفس تتأثر بالألوان المحيطة بها وعادة يضفي اللون القاتم الشعور بالكآبة والخوف وهو ما يفسر كراهية التلميذ للمدرسة ومقته لوجودها ,ومن جهة أخرى تمتاز من حيث العمارة بكونها بناية مكونة من عدة غرف ذ ات صفوف متراصة ضيقة يحشر فيها عدد كبير من التلاميذ في جو يسوده الخوف والصرامة فهي أشبه ما تكون بمعتقلات وسجون أو ثكنات عسكرية وليس لها أي معلَمٍ يوحي بأنها مؤسسة تعليمية تربوية بل على العكس تماماً فكل ما فيها يشير بشكل واضح الى منظومة العنف السائدة في هذه المؤسسات.
هذا اضافة أن تسمية الوزارة (بوزارة التربية والتعليم ) لم يكن عبثا في ظل نظام مستبد فالتربية أولا ثم يليها التعليم فالأولوية في هكذا أنظمة هو تقديس المنظومة السلطوية على مشارب العلم .
منهجية المناهج :
معظم أن لم نقل كل المناهج مبنية على مبدأ المقاربة بالكم دون الكيف ,حيث تضم تصميما دراسيا يفتقر لأدوات بناء واستثمار وتحليل المعرفة واسقاطها على الواقع المحلية , وتلقن عموديا دون مناقشة على أساس في نهاية مرحلة دراسية سيتم تقييم السعة الكمية من الرصد المعرفي عبر امتحانات نمطية جافة هذا النهج الذي يرسخ حالة من القهر وانحسار الشخصية وتعنيفها اضافة الى جو الرعب المرافق للامتحانات الذي يؤدي بالعديد من الحالات الى الاصابة بالانهيار العصبي والآرق والقلق والبعض من هذه الحالات ادى بها الحال الى الانتحار .
اذا هل يمكن أن تتطور المدارك العقلية في ظل هكذا منظومة ؟
بالتأكيد لا يمكن أن تتطور المدارك العقلية ولن يتشكل الوعي النقدي الضروري لخلق الكفاءات العلمية والفكرية في منظومة تحكمها فلسفة القمع والترهيب والعنف ,فان أي محاولة لنقاش والخوض في بعض المسائل الفكرية ذات الطابع السياسي أو الديني أو حتى الاجتماعي هي ممنوعة ومحرمة ولا يمكن الفكاك من براثنها ولهذا فغالبا ما يتمخض عن جو القهر هذا سلوكيات عدوانية وهذا ما نشهده في تصرفات التلاميذ في المدارس .
أمثلة على بعض المواد الدراسية:
فعلى سبيل المثال لا الحصر مادة التربية العسكرية بما تحمله من أهداف قائمة على الإذلال والإخضاع والخنوع والطاعة العمياء، إضافة الى مادة التربية القومية بمضامينها القائمة على تمجيد القائد الأوحد والحزب الواحد ورفع شعارات الاشتراكية والقومية ومقولات الممانعة والمقاومة…، ولا ننسى التربية الدينية التي كانت تصور لنا الله بانه جلاد (إذا كذبت، الله بحرقك بالنار وإذا …. الخ
النار لك بالمرصاد، (شعرك مبين يالطيف الله رح يعلقك من شعرك ويحرقك بالنار، والله رح يعلقك من ثديك إذا ارتكبت الزنا هذه هي العقوبة في الآخرة وفي الدنيا الجلد والضرب و…الخ) صورة من التعنيف والترهيب والرعب لا مثيل لها صوروا لنا الله بانه الشر والجلاد والذي يعذب ويعاقب ويحرق بالنار جهنم.
كل هذا العنف رسم ملامحنا المشوهة ومجتمعاتنا الهشة، فهل انتهى مسلسل الرعب عند هذا الحد؟ لا لم ينته فالصراع الذي نعيشه وصراعات الاطراف المتناحرة تلقي اليوم بظلالها على العملية التعليمية ويحاول كل طرف جاهداً فرض سيطرته على العملية التعليمية وفرض مناهجه التي تعكس آراء وأفكار وسياسات تسعى كل جهة إلى غرسها في عقول الأجيال من خلال مناهجها التعليمية.
فثمة تفاعل معقد من العوامل الاجتماعية والبيئية تقف وراء العنف الذي لا يمكن عزوه الى ثقافة واحدة أو مجتمع واحد.
توجد هذه العوامل في البنى الاجتماعية التي تصوغ القوانين والسياسات والسلوكيات والمعتقدات فيما يتعلق بنوع الجنس وعلى القوة والسلطة، وإن تأثير جهاز التربية والتعليم على بلورة هوية وثقافة المجتمعات الانسانية وعلى منظومة القيم والمعايير الاجتماعية فيها يرتكز على ثلاث منطلقات مختلفة:
الاول يركز على الدور الوظيفي لجهاز التربية والتعليم في بناء المجتمع ووصول المجتمع الى حالة من التوازن والانسجام، بينما يركز الثاني على كون هذا الجهاز أداة للسيطرة بيد الفئات والطبقات المهيمنة والدولة التي تريد بناء المجتمع حسب مصالحها وإحكام السيطرة على المجموعات المهمشة، أما التوجه الثالث فيتعامل مع المؤسسات التعليمية كإحدى ساحات الصراع في المجتمع على هويته وقيمه وتأثير ذلك على ثقافة العنف وانعكاسها على الفئات الاكثر ضعفاً كالنساء والأطفال ،غير أن المجتمع المحلي واعتقاداته وأعرافه والعلاقات الشخصية والتاريخ الشخصي للفرد تلعب هي ايضاً دوراً بصفتها مخاطر قادرة على تحريك العنف .
من الامثلة على العوامل البنيوية المحركة للعنف على سبيل المثال الفقر وانعدام المساواة والضغوط المرتبطة بعوامل عديدة، ومن الممكن أن تشمل العوامل المؤسسية المحركة على ضعف أنظمة حماية المرأة أو الممارسات الثقافية أو الدينية المؤذية. أما في المدرسة فيمكن أن تشمل الدوافع المؤسسية للعنف ضعف تأهيل وتدريب المدرسين ونقص الموارد المدرسية أو وجود فئة من المعلمين الذين يعملون على إدامة العنف المقبول ثقافيا إضافة إلى المناهج التعليمية القائمة على فكرة السيطرة والهيمنة والاذعان والعنف بكل اشكاله وصوره.
وفي المحصلة فان الغاية من فلسفة القهر والتعنيف التربوي هو هندسة العقل ليتوافق مع الوضع القائم ودفعه لقبول الآفات الاجتماعية من مظالم اجتماعية وسياسية وفقر وتسلط كأمر طبيعي جبري لا يمكن التخلص منه أو تغييره وعلى أساسها تنجح السطلة الاستبدادية في تعميم نمط مشوه من الثقافة يعادي الاختلاف وينمي هاجس الخوف من المجهول .
ضمن هذا النهج القائم على الهيمنة وسلب الارادة هل يوجد تعليم محايد ؟
حسب رأي الفيلسوف البرازيلي (باولو فيريري ) فهو ينفي وجود تعليم محايد فإما أنه أداة للتحرر أو أداة للقهر , ومن هذا المنطلق يرى بأن سمة عصرنا هي القهر التي يقصد به فرض مجموعة من القيم والتصورات وتعميمها قصد خلق أفراد متشابهين على مقاس السلطة وتكييفهم مع الأمر الوقع والرضوخ له والخنوع وذلك بموجب آلية هندسية قهرية معقدة تنتج العنف بكل صنوفه .
السؤال الذي يطرح هنا كيف نستطيع مواجهة هذا العنف؟
نحتاج هنا إلى وضع خطة شاملة للتربية والتعليم ضد العنف والتمييز، خطة تشمل عدة مستويات (محلية، إقليمية، دولية) ولكن قبل ذلك كله لابد لنا من اسقاط كل الانظمة الاستبدادية، كشرط لازم و ضروري ، فمع وجود الاستبداد لا يمكن انهاء العنف فضرورة نبذ ثقافة العنف وضرب الشرعية الاجتماعية وتجفيف مصادر هذه الشرعية ووضع مناهج لا تخدم سياسية جهة معينة، ولا تهمش طرفاً ولا تمجد حزباً أو زعيماً وتكون ملائمة لكل المكونات، قائمة على التحليل والتركيب والنقد واعمال العقل بعيداً عن التسيس والتدجين والتلقين، والعمل على بناء كل ما يمت لمؤسسة التربية والتعليم بما فيها المدارس والمناهج وتدريب المعلمين لخلق بيئة آمنة خالية من ثقافة العنف وتراعي الاعتبارات الجنسانية وتسمح بحرية التعبير دون خشية من الانتقام .
أما في واقعنا كنسويات، فان حقل التربية والتعليم يجب أن يكون جزء من نضالنا السياسي الأوسع لتغيير الواقع ونيل حقوقنا بما في ذلك مواجهة العنف والجريمة والتهميش والتمييز والصورة النمطية (ماما تطبخ وبابا يقرأ) هذه الصورة التي ترسخت في عقولنا على مر أجيال، لقد آن الأوان لأن تكون الصورة أكثر إنصافاً (ماما وبابا يعملان معاً ويقرآن معاً) أشرت الى هذه الصورة على سبيل المثال لا الحصر. فالخطط التربوية والتعليمية يجب أن تكون جزءاً من مخططات أعم وأشمل وأوسع وخلافا لذلك سيكون تأثيرها محدوداً.
وقبل ان أختم لابد لي أن أشير الى أنه عندما تآزر المجتمع الدولي من أجل الموافقة على أهداف التنمية المستدامة وهي عبارة عن خريطة طريق إنمائية نحو العام 2030 كان العنف واحداً من الموضوعات المهمة المطروحة فقد ركزت المادة 5 على العنف ضد النساء والفتيات كما نصت الفقرة أ من المادة 4 إلى رفع مستوى المرافق التعليمية وتهيئة بيئة تعليمية فعالة ومأمونة وخالية من العنف وشاملة للجميع.
فمن حيث النتيجة نحتاج الى ثورة ونهضة في مجال المنظومة التربوية والتعليمية والقضاء على كل أشكال الاستبداد والتهميش والعنف وصولاً الى منظومة تربوية وتعليمية آمنة وخالية من العنف.
ملك قاسم محامية وناشطة وعضوة في اللوبي النسوي السوري
خاص لوبي النسوي السوري