ااحترفت دوماً تمويه الحنين بأسماء مختلفة، ألفظها على عجل كمن يعترف بتهمة. لم أخشَ يوماً شيئاً كقلبي! أنكرته ما استطعت منذ أن ركبت سيارة الأجرة باتجاه المطار لم ألتفت للخلف. ست سنوات من التحجر ظننت فيها أنني نجوت من وحش العاطفة لتوقظه اليوم زينة الميلاد! الشوارع ملونة تملأها الأضواء وأنا أرتدي خطوتي الرمادية صوب قهوة جديدة أكتب فيها قصصاً عن الماضي.
الوقت خدعة!
أنا من مكان يموت فيه الإنسان أكثر من مرة خلال حياته فهل أستطيع أن اسميه وطناً؟ أتذكر ما كتبه غسان كنفاني في تعريفه للوطن “-أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.” الجميع يعرف هذه الجملة والجميع يكررها، فما الذي عليه أن يحدث يا غسان لتصير هذه البلاد وطناً؟ ربما ألا نخاف الموت فيها إذا ما مارسنا الحياة! هل تعلم أن الحزن قد يصبح مدينة تسكنها وترغب دائماً في الرحيل عنها، لكن ما أن تغادرها حتى تسكنك هي بدورها كلعنة تستقر في روحك إلى الأبد. ما من فكاك من الوطن، إذ أن أصل الإنسان طين! جسدي استمرار للأرض التي أتيت منها أحملها معي أينما أذهب.
أنا فلسطيني سوري من جيل الثمانينات. أنا ومعظم أبناء جيلي لم نكن نعرف من نحن، كبرنا وقد تلقنا من يجب أن نكون. هناك قوالب معدة مسبقاً للجميع، وما عليك سوى تطبيق الشروط لتلتصق في واحدٍ منها. ما كان يناسبني أي من تلك الأدوار المعدة للرجال وللنساء كنت رجلاً عابراً في بلاد يولد أفرادها ويموتون واقفين بوضعية الاستعداد على قدم واحدة.
لم أعرف مسبقاً ما معنى تقاطعات على الرغم من أن حياتي تحتوي عقداً كثيرة. في جلسة لي مع معالجتي النفسية أخبرتها عن صديقتي التي تشاهد مسلسل الفصول الأربعة كلما أرادت الأكل؟ كيف أنها تجلس ككل المغتربين على عتبة الذاكرة لتستطيع البلع وسط الصور والوحدة. و أخبرتها عني أيضاً كم أشعر بالوحدة. وحدة تختلف عما يمر به الآخرين فأنا أحن لمكان لم يرغب بي ولم يقبل بي دون قناعي. كان علي دوماً أن أختبئ وراء الكلمات، وأن أكون حذراً في انتقاء ملابسي فلا تكون ذكورية تماماً لأتجنب عدوانية الرفض. في شوارع كل من فيها محتقن يبحث عن ضحية ليعلق عليها عجزه عن التغيير. وعن أنني في السويد لاجئ من أقلية عليها أن تتعلم من البداية طرقاً جديدة لتمارس أدق تفاصيل الحياة في بلاد جديدة وباردة تختلف كثيراً عن بلادي. وكيف أنني بين الجالية العربية أُعد من أقلية جندرية غير مرحب فيها من الكثيرين فيها. فأخبرتني أن هذا يسمى تقاطعية الأقليات، وهو مفهوم يصف تقاطع الطرق التي “تتقاطع” بها أنظمة عدم المساواة القائمة على الجنس والعرق والتوجه الجنسي، والهوية الجنسية ،والإعاقة والطبقة. بالنسبة لي كان ذاك الجواب بداية للتصالح مع الواقع، فأن تلفظ الأشياء يعني أن تدركها. إن أدركي لما أمر به خفف عني الكثير من المعاناة، ودفعني للبحث أكثر حول معنى التقاطعات، أسبابها، وأعراضها فصار التكيف أسهل والاختلاط بالمجتمع أخف. لذا بدأت بالكتابة عن تجربتي فمشاركة المعرفة يعني تصغير الفراغ الذي يملأه الجهل والخرافة والأدلجة الفكرية القائمة على صنع القطيع.
في سورية أنت تعيش مع جسدك علاقة سرية كمن يقوم باجتماعات للثورة ضد دكتاتور. أجزاء كثيرة من هويتي كنت قد خبأتها عميقاً داخلي. بدأ الإنكار كآلية دفاعية لتجنب الألم الناتج عن الاعتراف بها. لست أنا فقط، بل الكثيرين غيري من أفراد مجتمع الميم عين. كان على أصحاب الهويات الجندرية المختلفة أن يحملوا قلوبهم على ظهورهم حقائب ظهر، مضطرين للمغادرة صوب أي دفء هرباً من الوصم الاجتماعي.
يرتبط الوصم الاجتماعي بعوامل عديدة كالتدين، الأبوية، العادات الاجتماعية. لكنه يتأثر بدرجة كبيرة بالمستوى الاقتصادي للفرد والطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها. أفراد مجتمع الميم عين من الطبقة المخملية والتي تعد أقلية أيضاً وسط مجتمع يأكله العوز لأبسط مقومات الحياة (لكنها أقلية مهابة) تحميهم أموالهم في هذا المجال كما في مجالات عديدة، ويخشاهم الشارع الذي يربط المال بالسلطة. أما بالنسبة للفقراء منهم وبالأخص أولئك الذين لم يكملوا تعليمهم تدفعهم الحاجة المادية للعمل في الحرف والمهن التي يحكمها الشارع بأعراف ذكورية، فلك أن تتصور الخطر الذي تتعرض له امرأة عابرة إذا ما فرضت عليها الظروف العمل في ورشة دهان! وهذا ما حدث مع صديقة لي اضطرت أن تطلق لحية لتخفي نعومتها خوفاً من التحرش والتنمر. عدم قبول أرباب المهن بالعاملين من مجتمع ميم عين يدفع بالبعض منهم للعمل في بيع الجنس لاسيما للعابرات منهم وهنا تنشأ مشكلة جديدة ألا وهي عدم القدرة على تلقي العلاج في حال الإصابة بالأمراض إما بسبب العوز المادي، أو الخوف مما قد يتعرض له المريض من ملاحقة أمنية.
كما أن للأغنياء منهم أيضاً دوائرهم التي تسمح بطاقاتهم البنكية بدخولها من مقاه أو جامعات يختلطون بها بمن يشبههم، وبمن نال فرصاً بالتعليم أفضل بكثير ممن تعلم في المدارس الحكومية حيث البيئة المعززة لتنميط الأدوار الجندرية.
لهؤلاء حظوظاً أوفر في تلقي العلاج، السفر، والتعلم باللغة الانكليزية أو الفرنسية. لا يخفى على أحد أهمية عامل اللغة في الحصول على مصادر علمية تتيح التعريف بالمثلية الجنسية ازدواجية الميول والعبور الجندري. في مجتمع لا يملك أدنى أساس من الثقافة الجنسية. حيث تتجاهل المناهج التعليمية في المدارس تثقيف الطلاب بالمعرفة المطلوبة ويعتبر الحديث في الجنس تابو لا يجب تجاوزه. ليتم التوجه صوب الانترنت للحصول على الأجوبة. للأسف تفتقر المصادر باللغة العربية للكثير من المنهجية العلمية، البحوث، والمنطقية في تناول هذه القضايا. فإذا ما جربت البحث باللغة العربية عن المثلية الجنسية، العبور، الكويرية، وغيرها من التصنيفات وجدت مئات المواقع التي تجرم وتقيم وتهين أفراد هذا المجتمع معتمدين على الحرام و العرف دون حضور للعلم أو الطب في هذه المنصات.
القليل من هذا الواقع تم تغييره بعد الثورة والأحداث التي تلتها. تم كسر حاجز الخوف لأول مرة. هذا الصدع في جسد القالب الواحد والنهج الواحد نصب مرايا أمام عيون الناس فأبصروا أنفسهم خارج السياق! لا يُطلب من الثورات أن تنتصر. كما لا يمكن التنبؤ بمخاضاتها متى تبدأ؟ إلى أين تقود؟ أو متى تنتهي؟ هي انفجار حتمي وعفوي تقود إليه الكثير من الاحتقانات والعوامل يتسبب بالعديد من الخسارات والمكاسب لكنه بكل الأحوال يحمل التغيير.
أمام الخسارات الجماعية، الخسارات الكبرى يتصلب القلب ويصبح من السهل الاعتراف. معرفة الذات تؤدي للاعتراف بها، أن تعرفها حقيقة بعيداً عما زرعه الآخرين فيك من تقييمات وأحكام لأفكارك ومشاعرك يجعلك تحبها. في بلادنا لم نتعلم كيف نحب أنفسنا، بل تعلمنا كيف نخافها، كيف نُسكت تساؤلاتنا ونعتبرها شر، كيف نختبئ خلف أصابعنا مرددين امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة. الحرب هدمت كل الجدران إلا هذا! لازال الكثيرون يحملونه على أكتافهم بظهور منحنية لا تجرؤ على الإبصار. نكشف اليوم عن أكتافنا المأكولة و نعرف جيداً أننا كلنا دفعنا الثمن..
———————————————————————————————————-
ورد زراع – خاص لحملة مارح أسكت لمناهضة العنف الجنسي و الجنساني يطلقها اللوبي النسوي السوري وبالشراكة مع دولتي وبدعم من المبادرة النسوية الاورومتوسطية