ولاء صالح – صحفية و عضوة في اللوبي النسوي السوري
ليس مفاجئاً القول بأنّه في العام 2023، بلغ مُعدّل مشاركة النساء في سوق العمل في الدول العربية (ما عدا دول مجلس التعاون الخليجي) نحو 11.7 %، فيما ترتفع نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي فتبلغ نحو 39.3%، ويُعزى ذلك لأسباب كثيرة منها استقدام عاملات من الدول الفقيرة للقيام بالأعمال الرعائية.
يُعرّف العمل الرعائي على أنّه رعاية الأشخاص والعمل المنزلي، بالإضافة إلى الأشكال الأخرى للعمل التطوعي التي تخدم المجتمع الأكبر.
في عالمنا العربي على سبيل المثال، تقوم النساء بأعمال رعاية غير مدفوعة الأجر أكثر ب 4.7 مرات من الرجال. لتشكّل أعلى نسبة في العالم، بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
في الأوساط التي عشنا وكبرنا فيها، عادةً ما يكون العمل الرعائي غير قابل للنقاش، وكأنّ أداء مهامه هو واجب يقتضيه العامل البيولوجي، هو شيء مُسخّر للنساء فقط، أمّا عدم القيام به فهو أمر مرفوض أسرياً و اجتماعياً. يُسمّى هذا العمل في بعض الأوساط الأكاديمية ب “العمالة العاطفية”، بسبب ربطه بالقيم النبيلة، واستغلال النساء عاطفياً و نفسياً لحثهنّ على القيام به كنوعٍ من الفرض الأخلاقي اللازم على النساء.
يُعدّ العمل الرعائي العمود الفقري في المجتمعات الأبوية للإبقاء على النساء في الحيّز الخاص، فيما يعمل الرجال في الحيز العام. في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بدأت أصوات النسويات تعلو بخصوص ضرورة النظر إلى هذه الأدوار الجندريّة ضمن السياقات الاقتصادية والاجتماعية الأكبر. تأسست الحركة النسوية “أجور مقابل الأعمال المنزلية” عام 1972 وبدأت الحديث عن الطُرق يلي انتهجتها الأنظمة الأبوية الرأسمالية لتكريس العمل الرعائي المجاني والتبعية المطلقة له.
يقوم جوهر الحركة على التأكيد على كون العمل المنزلي عملاً، لكنّه غير مدفوع و غير مرئي و يتم إنكاره. كانت سيلفيا فيدريتشي واحدة من العضوات الرئيسات في حملة “الأجور مقابل الأعمال المنزلية”. حللت سيلفيا في مقالها الشهير الهياكل الاجتماعية والعوامل العاطفية التي تبقي على العمل الرعائي غير مرئي، وشددت على حقيقة أنّ الأعمال المنزلية لم تُفرض على المرأة فحسب، بل هي تحولّت إلى صفة طبيعية من صفات جسدنا وشخصيتنا الأنثوية، إلى حاجة داخلية، وإلى طموح، يفترض أنّه يأتي من عمق شيمنا الأنثوية. كان على العمل المنزلي أن يتحول إلى صفة طبيعية، عوضًا عن اعتباره عقداً اجتماعياً.
ناقش المقال البُعد الثوري لطلب الأجور مقابل الأعمال المنزلية. بحسب تعبير سيلفيا، هو الطلب الذي به تنتهي طبيعتنا ويبدأ به نضالنا؛ لأننا وبمجرد المطالبة به نعلن رفضنا اعتبار أن العمل المنزلي تعبير عن طبيعتنا، وبالتالي رفضنا دور الأنثى الذي اخترعه رأس المال لنا.
تجد الحركة أنّ المطالبة بأجور مقابل الأعمال المنزلية هو في حد ذاته تقويض لتوقعات المجتمع منا، و تكمن ثوريته في قدرته ليس على تدمير رأس المال فحسب؛ بل لأنه يجبر الأنظمة الأبوية على إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية بحيث تصبح أكثر ملائمة للنساء.
تعرّضت الحركة ومؤسساتها إلى انتقادات كثيرة من قبل تيارات يسارية وجدت وكأنّ الحركة تريد إبقاء النساء حبيسات المنازل ويتقاضين أجراً مادياً، مما يعزلهنّ عن المجال العام.
في المقابل شددت سيلفيا في مقالها على أنّ نيل الأجور لا يعني بأن النساء يرغبن في مواصلة القيام بالعمل المنزلي، بل هي تعني العكس تماماً. لأنّ المطالبة بالأجر هو الخطوة الأولى نحو رفض القيام بتلك الأعمال. فطلب الأجور يجعل العمل مرئي، وهذا الشرط الأساسي الذي تنطلق النساء منه في ثورتهنّ ونضالهنّ.
ما كان مهمًا حقّاً هو الاعتراف بعمل النساء المُهمَّش بشكل واضح ومباشر، و نفي السرديات الأبوية و الرأسمالية التي تتلاعب بالنساء و بمخططاتهن وأحلامهن عبر ربط العمل المنزلي بالحب والعاطفة.
من الضروري اليوم مقاربة العمل الرعائي للنساء في أوساط العمالة و أنماط الهجرة في منطقتنا، مثل أنظمة الكفالة و حقوق العاملات المهاجرات، و من جهة ثانية حقوق اللاجئات في سوق العمل وخاصة في الدول المجاورة. إذ بسبب الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية والحاجة الماسة إلى المال يتم استغلال جهد النساء للقيام بأعمال الزراعة والخدمات و العمل في المصانع و المعامل بأجور منخفضة، ليست أدنى من أجور الذكور فحسب، بل حتى أدنى من أجور نظيراتهن من النساء المحليات أو الأصليات، ثمّ يعملن في حيزهنّ الخاص أيضاً، أي يعدن إلى منازلهنّ و يكملن عملهنّ المنزلي و الرعائي، مما يسبب عللاً نفسية و جسدية جسيمة. ناهيكنّ عن اتباع أساليب الترهيب والتهديد ورفض أصحاب رؤوس الأموال والأعمال بإبرام عقود عمل نظامية، وبالتالي زيادة احتمالية تعرضهنّ للاستغلال، وربما التحرش دون القدرة على اللجوء للقوانين من أجل تطبيق القانون. ما تزال النساء في بداية طريقهنّ النضالي من أجل جعل قلوبنا وعقولنا وأجسادنا وجهودنا مرئية، وإزالة الغموض عن هذا العمل على اعتباره عملاً مرتبط بجينات المرأة، لذلك الاعتراف بالعمل المنزلي كعمل غير مدفوع هو الخطوة الأولى التي يمكن أن نستعيد من خلالها ثمرة أعمالنا و أعمال أمهاتنا وجداتنا.