علياء أحمد – باحثة وناشطة نسوية
ليست النسوية حركة أحادية صماء، فقد شهد تاريخها مراحل مختلفة، سمّيت كل منها بـ”الموجة”، وهي استعارة استخدمتها الكاتبة مارثا وينمان لير، في مقالتها “الموجة النسوية الثانية” التي نشرتها مجلة نيويورك تايمز سنة 1968. تجب الاشارة إلى عدم وجود منهج نسوي واحد، بل عشرات المناهج النسوية المُتنوعة في طروحاتها، لكنها تتشارك في المطالبة بحقوق النساء، وإنهاء التمييز ضدهنّ، وتحقيق المساواة بين الجنسين.
لم تُحدّد بدقة بداية أو نهاية كل موجة زمنياً، لكنها نُسِبت إلى أحداث تُعدّ من أهم لحظاتها التاريخية. وسبق ظهورَ أولى الموجات النسوية، معارك ثقافية واجتماعية، خاضتها النساء منذ منتصف القرن السادس عشر حتى أواخر القرن الثامن عشر، شكّلت إرهاصات أولى أسّست للفكر النسوي. فقد ظهرت كاتبات قدّمن قراءةً جديدة للمثيولوجيا الدينية، أردنَ فيها استعادة مكانة حواء، ورفضَ إلقاء كل اللوم عليها في سقوط البشرية من السماء، ودور ذلك في العداء للنساء. وفنّدنَ، عقلانياً، فكرة تبعية المرأة ودونيتها، بل وحمّلنَ آدم المسؤولية بالتساوي مع حواء. كما عالجنَ التجارب الواقعية للنساء في المجتمع، وأكدنّ أن التمييز ضد النساء في الفرص والتنشئة، هو السبب الرئيس لتكريس دونيّتهن. وفي كتابتها “اقتراح جاد للسيدات” الصادر سنة1694، أعلنت ماري آستيل أن “المرأة لا تصبح أقلّ من الرجل فكرياً، إلا إذا تربّت على ذلك”.
المُثير للانتباه أن الكاتبات في تلك المرحلة، واجهنَ الكراهية السائدة للنساء، من خلال آليات تدل على وعي نسوي فطري فريد، فشكّلنَ مساحة أدبية احترافية لدعم فيها بعضهنّ البعض في وجه من ناصبهنّ العداء، وفرضنَ ذواتهنّ رغم الانتقادات والاتهامات القاسية، فوضعن اللبنات الأولى التي انطلقت منها الموجات النسوية لاحقاً.
بدأت الموجة النسوية الأولى أواخر القرن الثامن عشر، واستمرت خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لتنتهي مع الحرب العالمية الأولى. ويؤرخ بعضهم لبدايتها بكتاب ماري ولستونكروفت “دفاع عن حقوق المرأة” 1792، ويرى آخرون أنها بدأت مع مؤتمر “سينيكا فولرز” الذي انعقد في الولايات المتحدة الاميركية سنة 1848 بحضور 260 امرأة وإلى جانبهنّ 40 رجلاً يدعون للحد من التمييز القائم على أساس الجنس.
تزامنت هذه الحركة التحررية مع حركات تحرير السود ومناهضة الرق والعبودية في الولايات المتحدة. وتعدّ حركة “سفرجيت Suffragette” من أهم رموز المرحلة، وسارت بالتوازي تقريباً بين بريطانيا والولايات المتحدة، ورفعت مطالب حق الاقتراع والمواطنة. وشهدت تلك الفترة مظاهرات عاملات النسيج للمطالبة بحقوقهنّ، والتي خلدها يوم المراة العالمي (8 آذار/مارس). وظهرت قضية شهيرة بخصوص حضانة الأطفال، خاضتها كارولين نورتون، أثمرت تغييرات مهمة في قانون حضانة الأطفال. رافق القضية موضوع هيمنة الزوج واستيلائه على ملكية زوجته، ووقّعت النساء البريطانيات عريضة لتعديل القانون، وناضلنَ طويلاً حتى جرى إصلاح أوضاع الملكية للنساء المتزوجات.
تميزت هذه المرحلة بتزايد الأقلام النسائية والرجالية التي تناصر قضية المرأة، ومن أبرزهم جون راسكن، جون ستيورات ميل، وزوجته هارييت تايلر/ ميل. وامتدت الموجة عشية الحرب العالمية الأولى لتشمل بعض رواد “النهضة العربية”، الذين سافروا إلى أوروبا وتأثروا بالفكر التنويري، أمثال رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، وهدى شعراوي. وانتهت هذه المرحلة مع الحرب العالمية الأولى، لتعيش الحركة النسوية فترة كمون، ثم لتنهض بعد الحرب العالمية الثانية موجة جديدة.
منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى ثمانيناته، ازدهرت الموجة النسوية الثانية، لتنصهر حيناً وتتشابك حيناً مع الموجات اللاحقة. في هذه المرحلة، عادت النساء إلى الشارع للإضراب والتظاهر، لا من أجل مطالبهن الحقوقية السابقة فقط، بل لرفع الوعي بتحرير أعمق للمرأة، كالمظاهرات ضد مسابقة ملكة جمال أمريكا، حيث أقامت النساء آنذاك “صندوق مهملات الحرية”، وألقين فيه كل ما يساهم في تعذيب الأنثى وتنميطها، كأدوات التنظيف والأحذية ذات الكعوب العالية وحمّالات الصدر. وتظاهرت النساء ضدّ حرب فيتنام، وتأسّست جمعيات استطاعت لفت نظر الحكومات، كما في الولايات المتحدة، حيث شكّل الرئيس كينيدي لجنة رئاسية حول وضع المرأة، قدمت مقترحات هامة لتحسين أوضاع النساء. وفي بريطانيا، انعقد أول مؤتمر وطني لتحرير المرأة في كلية راسكن عام 1970، مركّزاً على أربع مطالب رئيسة: المساواة في الأجور، المساواة في التعليم والفرص، إنشاء حضانات تعمل على مدار اليوم، والحرية في استخدام وسائل منع الحمل والإجهاض.
ورغم رفع شعار“الشخصي هو السياسي”، لكنها كانت موجةً فلسفية معرفية، اكتسبت طابعاً أكاديمياً جعل من النسوية نخبوية نوعاً ما. وبدأت خلافات التيارات النسوية الرئيسة التي تبلورت في تلك المرحلة (الماركسية، والليبرالية، والاشتراكية والرديكالية). وظهرت منظّرات قدّمن طروحات غنية، مثل سيمون دي بوفوار، بيتي فريدان، كيت ميليت، وأليس ووكر.
في ثمانينيات القرن الماضي، بدأت تنضج الموجة النسوية الثالثة، التي سُمّيت “مابعد النسوية post-feminism“، لتأثرها بآراء فلاسفة ما بعد الحداثة modernism post-، مثل فوكو ودريدا. وتوصف كما قرينها اللغوي (ما بعد الحداثة) بأنها “شيء غير محدد المعالم”. لقد جاءت الموجة الثالثة بصورة ردّة فعل على الموجة الثانية وإخفاقاتها، ويمكن القول أنها، حرفياً، تجسيد صارخ لصراع الأجيال، وأبرز مثال هو علاقة ريبيكا ووكر التي أطلقت “الموجة الثالثة” مع أمها أليس ووكر، إحدى نسويات الموجة الثانية البارزات.
في مقالتها “الأخوات يتسببن بذلك لأنفسهن”، تتحدث ديان عيلام عن “متلازمة الطاعة العمياء”، وهيمنة النسويات الأكبر سناً وعدائيتهنّ ضد النسويات الأصغر سنًا، الخارجات عن النمط النسوي لأمهاتهنّ، فلا يُسمح بطرح الأسئلة والانتقادات أو ابتكار طرق جديدة للتفكير وممارسة النسوية بطريقتهنّ. نتج عن ذلك اعتناق هذه الموجة أيديولوجيا مرنة، يمكن تكييفها حسب الاحتياجات والرغبات الفردية، مع قبول أكبر للتنوع والاختلاف، والتركيز على قضايا الجندر والطبقة الاجتماعية والعرق. ويُسجل لها اهتمامها الكبير بقضايا المهمشين، والأصوات المنسية التي تم تجاهلها أو محاربتها سابقاً، وانطلقت منها النسوية التقاطعية، ونسوية مابعد الاستعمار، والنسوية الكويرية. لكن يؤخذ على بعض تياراتها المبالَغة والذهاب بعيداً في الطروحات التي تركّز على الفرد والهوياتية، مما يؤثر على المسار الأساسي الأعرض للأهداف النسوية. وتعدّ بل هوكس، نعومي وولف، وجوديث باتلر، من أبرز أعلامها.
واستجابةً للتطورات التكنولوجية الحديثة، بدأت الموجة النسوية الرابعة أو “النسوية الالكترونية”، وظهرت بوادرها الأولى مع العالمة النسوية الأميركية دونا هاروي، التي أطلقت عام 1985 ما سمي “بيان سايبورغ”، وفيه قدّمت تصوراً متخيلاً عن كائن سيبرانطيقي (نصف انسان ونصف آلة)، يملك مُثلاً عليا لحضارة لا تتبنّى أي تمييز جنسي ولا عرقي، إنسان مثالي يملك طبيعة مؤمنة بالمصلحة الجماعية. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وظهور منصات عالمية، ركّزت على إطلاق حملات تناهض العنف ضد النساء، والتحرش الجنسي، فأطلقت هاشتاقات مثل “ #أنا أيضًا Me too”. وفي عام 2014، نظمت جمعية الاتصالات التقدمية اجتماعاً عن الجندر والجنسانية والإنترنت، وجرى إطلاق بيان المبادئ النسوية للإنترنيت، بهدف تمكين النساء والأفراد الكويريين على الشبكة العنكبوتية.
قرون مضت، ولم تتحقق المطالب النسوية (وبعضها يعود لإرهاصاتها الأولى)، فالعداء للنساء، والتمييز ضدهن في الفرص والتنشئة والتعليم والعمل مستمرّان. وبتطوّر التكنولوجيا والسياسات، تطوّرت معها أشكال جديدة من العنف ضد النساء، ما يعني أن الموجات النسوية ما زالت تتلاطم في سعيها إلى برّ النجاة.
خاص اللوبي النسوي السوري – حملة مارح أسكت
العمل للفنانة روان حسن