عليا أحمد – باحثة وناشطة نسوية
لفهم معنى النسوية وظروف نشأتها وضرورتها، لابد من الاشارة إلى ما اصطلح على تسميته بـ“الفجوة النوعية” التي تٌعبر إحصائياً وبيانياً عن الفرق في الحقوق والموارد بين الرجال والنساء. هذه الفجوة الموجودة منذ مئات السنين، والتي تختلف حدّتها بين دولة وأخرى وفق التقارير الاقتصادية العالمية، تُلقي في هوتها ملايين النساء اللواتي يحصلن على أقل مما يحصل عليه الرجال، في جميع المجالات، التعليمية والصحية وامتلاك الثروات، والوصول إلى المناصب القيادية.
تُبرر فلسفات وسياسات ممنهجة وايديولوجيات مختلفة هذا التمييز ضد النساء، وتُنظّر على مستويات مختلفة بغية إضفاء الشرعية عليه، مؤسِّسةً لنظام يضع الرجال في مكانة أعلى من النساء، ومن الأفراد ذوي الهويات الجنسية اللامعيارية (ما يُعرف بمجتمع الميم)، في بنية لا يمتلك فيها الرجال السلطات الأساسية في المجتمع فحسب، بل تشكل النساء أنفسهن جزءاً أساسياً من هذه الملكية. وسُمّي هذا النظام بـ (البطريركية – (Patriarchy، نسبة إلى كلمة “البطريرك”، وهو اللقب الذي يطلق على رئيس الأساقفة في الدين المسيحي، أي “الأب الرئيس”، للإشارة إلى صاحب السلطة العليا في المؤسسة. وتُترجم الكلمة إلى “الأبوية”، في الدلالة نفسها التي تحيل إلى المجتمع الذي يمنح الرجل إمتيازات وحقوقاً في السيطرة والملكية، وفي وضع قوانين ومعايير أخلاقية ودينية، تكرس سلطته والعادات والتقاليد الداعمة لها، والتي تحط في الوقت نفسه من قيمة النساء وبقية الأفراد اللامعياريين، وأهليتهنّ/م في امتلاك قرارتهنّ/م وتقرير مصائرهنّ/م.
أمام هذا الوضع جاءت النسوية ((feminism تعبيراً عن ضرورة ظهور ثورة في وجه الهيمنة والتسلط، وهي مجموعة تصورات فكرية وفلسفية مؤسَّسة على تمحور الأنثى حول نفسها وتفاعلها مع العالم، انطلاقا من ذاتها الحرة، بعيدًا عن أي تأثّر بالأيديولوجيات التي سعت طويلا إلى ترسيخ فكرة دونيتها أمام الرجل، ومؤكِّدةً أن المرأة والرجل متساويان في الجدارة الإنسانية، وباحثةً في الجذور والأسباب التي أدت إلى التفرقة غير العادلة بين الرجال والنساء، استنادًا إلى حقائق وإحصائيات حول أوضاع النساء في العالم، ترصد التمييز القائم عليهن، سواء من حيث توزيع الثروة، أو المناصب والفرص، وسواها من الحقوق الأساسية للإنسان.[2]
يترافق التمييز ضد النساء مع العنف والكراهية تجاههنّ، وكثيراً ما يُقتلن بسبب جنسهن. وتزخر الكتب والأدبيات والفلسفات، بخطابات كارهة للنساء صدرت عن فلاسفة ومفكرين وعلماء، أعلنوا صراحةً أن المرأة كائن أقل قيمة إنسانية من الرجل. مثلاً، ادّعى أرسطو أن المرأة لا تملك قدرات عقلية كالتي يملكها الرجل وهي “أساس كل الشرور”، أما سقراط فرآها “حيوان بليد أحمق ولكنه من بواعث الفرح والسرور”، بينما ميز فيثاغورس بين «مبدأ الخير الذي خلق النظام والنور والرجل، ومبدأ الشر الذي خلق الفوضى والظلمات والمرأة. ووافق شوبنهار أرسطو رأيه، مضيفاً أن قدرات المرأة العقلية المتدنية تؤثر على قدرتها (أو عدم قدرتها) على أن تكون أخلاقية. وحرّض نيتشه على العنف ضد المرأة، فكتب في كتابه (هكذا تكلم زرادشت): “هل انت ذاهب إلى المرأة؟ إذًا لا تنسى السوط”. أما جان جاك روسو فقد أكد في كتابه (اميل) أنه لا يجب على المرأة الإنشغال بتعلم تخصصات لن تفيدها في تأدية دورها الأساسي، وهو الأمومة والزواج!
على مر التاريخ ساهمت الفلسفات الذكورية والتفسيرات الدينية في تنميط أدوار النساء ورسم حدود قدراتهن والحد من حرياتهن، بناءً على مغالطات لاعقلانية تُجادل لشرعنة التمييز ضد النساء، وتذهب أبعد من ذلك باعتبار هذا التمييز والتشييء “تكريمٌ” لهن، وبأن اللامساواة والانتقاص من شأنهن ليست أمراً سيئاً، وإنما من طبيعة الحياة ونتيجة للفروق البيولوجية بين الجنسين. نجحت هذه السياسة طويلاً في استمرار الهيمنة على النساء وغسل عقولهن، واستسلامهن بكامل إرادتهن إلى واقع الحال متنازلات عن حقوقهن وحرياتهن.
منذ القدم ظهرت بعض الآراء العاقلة، كرأي ابن رشد الذي الذي انتقد في كتابه “جوامع سياسة أفلاطون” تملكَ الرجال للنساء، وكيف يحدّ المجتمع من إمكاناتهن عن طريق حالة الاستعباد التي يضعهنّ فيها، بدلاً من مشاركتهن في الإنتاج. إلا أن هذه الآراء التنويرية لم يكتب لها الإزدهار، وابتلعتها النيران التي أحرقت كتب ابن رشد وكفّرته آنذاك.
ومع عصر النهضة وبزوغ مرحلة جديدة من الاتفتاح والتقدم، ارتفعت أصوات نسائية في مناطق وثقافات مختلقة حول العالم، للمطالبة بحق النساء في الحصول على فرص متساوية مثل الرجال، ورفضِ كراهية النساء (misogyny). وفي مدينة البندقية التي كانت من أهم مراكز الفكر والثقافة وانتقل إشعاع نهضتها إلى أوروبا، ولدت كريستين دي بيزان (1364 – 1430)، التي تعدّ أول امرأة أدانت كراهية النساء، وكتبت عن العلاقة بين الأجناس، متحدّيةً انتقادات الكتّاب المعروفين بمعاداتهم للنساء. لكن مصطلح النسوية صُك للمرة الأولى 1837 من قبل المفكر الاشتراكي الفرنسي شارل فورييه، الذي انتقد معاملة الغرب للمرأة، وخلص إلى أن “توسيع امتيازات المرأة” هو المبدأ العام لكل التقدم الاجتماعي.
وشيئاً فشيئاً، وجدت نساء كثيرات بأنفسهن الكفاءة والقدرة لمجاراة الرجال في جميع المجالات، فرفضن التمييز وناهضن العنف ضدهن وضد بنات جنسهن، وضد الأفراد من الفئات اللامعيارية التي طالما كانت منسية ومهمشة، بل ورفضن العنف ضد الرجال أيضاً باعتبارهم ضحايا للنظام السلطوي. لكنهنّ وُوجهن بتحريف خطابهن وتشويهه، إذ يخشى سدنة البطريركية من أن تحظى النساء بحقوقهن وحريتهن، ما يعني الحد من المكتسبات التي أسس لها النظام البطريركي مشوها وعيهم بالحرية. واتُهِمت النسويات بأنهن “ضد الطبيعة” ويردن “هدم الأسرة”، حيث فّسّرت الشعارات المناهضة للنظام البطريركي/الأبوي، وهو السلطة المُهيمنة التي يعاني منها الرجال كما النساء، بأنها معاداة لقيم الأسرة، وللأمومة والطبيعة.
إنّ النسوية فلسفة لا تنحصر بالنساء دون الرجال، والعقلية الذكورية ليست حكراً على الرجال، إذ يمكن أن تحملها وتدافع عنها نساءٌ أيضاً، إلا أن النسوية تسعى إلى عالم يتمتع فيه كافّة أفراد المجتمع بالحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية.
“النسوية المنشودة ذات الرؤى المستقبلية، هي سياسة حكيمة ومحبة. إنها متجذّرة في حب كيان الذكر والأنثى، ورفض تمييز أحدهما على الآخر. روح السياسة النسوية هي الالتزام بإنهاء الهيمنة الأبوية على النساء والرجال، الفتيات والفتيان. لا يمكن أن يوجد الحب في أي علاقة تقوم على الهيمنة والإكراه. لا يمكن للذكور أن يحبّوا أنفسهم في الثقافة الأبوية إذا كان تعريفهم الذاتي يعتمد على الخضوع للقواعد الأبوية. عندما يتبنى الرجال التفكير والممارسة النسوية، مما يؤكد على قيمة النمو المتبادل وتحقيق الذات في جميع العلاقات، سيتم تعزيز صحتهم العاطفية. إن السياسة النسوية الحقيقية تنقلنا دائمًا من العبودية إلى الحرية، من انعدام المحبة إلى المحبة” بيل هوكس
[1] هند محمود، شيماء طنطاوي، دليل المبادرات النسوية/النسائية الشابة، ط1 (د.م: مؤسسة نظرة للدراسات، 2016) ص13
خاص اللوبي النسوي السوري – حملة مارح أسكت
العمل للفنانة روان حسن