رغم المساهمات الكبيرة التي قامت بها المرأة السورية في إدارة النشاط المناوئ للأسد خلال ثورة 2011، تواجه المرأة السورية الآن عقبات متفاقمة تحول دون مشاركتها في المجتمع المدني.
في أعقاب ثورة 2011، شغلت النساءالسوريات مساحة واسعة في قضايا المجتمع المدني وأصبحن يخضن حول دورهن وحقوقهن نقاشاً ساخناً يحتلّ جزءاً كبيراً في الإعلام الثوري السوري، سواء في الصحافة أو على البرامج التلفزيونية وعلى كافة وسائل التواصل الاجتماعي التي انضم إليها مؤخراً تطبيق كلوب هاوس. ويستطيع المتابع اليوم أن يقرأ ويرى ويسمع بشكل مكثّف حوارات حول الحضور النسائي والنسوي على ساحة العمل المجتمعي الخاص بالوضع في سوريا.
تؤكّد السوريات حداثة هذا الحضور وينسبن فضله إلى بداية العمل الثوري السلمي المنظّم ضد نظام الأسد في عام 2011. إذ أخذت فيه النساء أدواراً فعّالة أضعاف ما كان متاحاً لهنّ في الحِراك المدني في السابق في ظل نظام يدّعي علمانية الدولة والعدالة الاجتماعية (ولكن ليس فيما يخصّ قوانين الأحوال الشخصية التي تمسّ النساء بشكل كبير)، وفي سياق انتهاك مستمرّ للحريات العامة ومنهجية تكرّس إلغاء دور المجتمع المدني واحتكار الفضاء العام، وترسي أيديولوجية الحزب الواحد القائد للمجتمع والدولة، وتصنّف كل حِراك سياسي أو مدني أو ثقافي خارج سيطرته ومنظوره كنشاط خائن معادي للدولة ومتهم بالعمالة للإمبريالية العالمية.
شاركت النساء في الاحتجاجات الشعبية منذ بداية الثورة، وكان لهنّ دور كبير في تأسيس التنسيقيات الثورية التي مكّنتهن من المشاركة في مجالات الحِراك السلمي والإعلامي والإغاثي على طول المساحة السورية بشكل كبير وفعّال خاصة في المناطق المحاصرة والمنكوبة. كما نشطت النساء أيضاً في الفعّاليات السياسية المختلفة، وما يزلن حتى اليوم يحاولن إثبات أهمية انخراطهن في مؤسسات المعارضة.
ومع ذلك، لم تفلح هذه الجهود في إخماد مزاعم العيوب التي وصمت بها السوريات خاصة حين يتعلق الأمر بدورها القيادي المدني. وفى هذا الصدد، ما زالت النساء السوريات يجدنَ مقاومة كبيرة لوجودهن ولمشاركتهن الجادة في صنع القرارات، وذلك على الرغم من إصرار المؤسسات الدولية الداعمة على تمثيل المرأة. لكن النسويات لا يردن أن يتحولن إلى مجرد رقم في معادلة ” الكوتا” التي يشترطها المجتمع الدولي، وما يزلن يجتهدن لتأتي مشاركتهن الفعالة في العمل السياسي نتيجة لوعي اجتماعي متزايد حول أهمية هذا الأمر وضرورته، وليس استجابة رمزية لإملاء خارجي.
المعارضة الداخلية للحركة النسوية السورية
تواجه السوريات ضغوطًا داخلية كبيرة ضد مشاركتهن، حيث يعتبر الإسلامويون اتفاقية سيداو العالمية حول حقوق المرأة وغيرها من الاتفاقيات الحقوقية الدولية مخالفة للشريعة الإسلامية، بل يصنفونها كخطر كبير على المجتمع ويرفضونها جملة وتفصيلاً. لذا تجد النساء السوريات أنفسهن في خضمّ هذا الصراع الذكوري على أرضية هشة في غياب ملحوظ لأطر قانونية مناسبة يمكنها أن تحميهن من العنف السلوكي والتهميش.Open imageOpen image
(صورة مرفقة عن بوست لعضو الائتلاف أيمن جمال+ رد اللوبي النسوي السوري عليه)
وفي سياق العمل النسائي مع المنظمات الدولية المتواجدة في مناطق المعارضة تواجه الموظفات وصاحبات المشاريع المموّلة دولياً تزايداً ملحوظاً في الخطاب التحريضي ضد عملهن، وسط ادعاءات بكونهنّ مجرّد أدوات للغرب ينفذن مخططات معادية للشريعة وللعرف الاجتماعي. تعرّض هذه الاتهامات الموظفات والناشطات السوريات في المؤسسات الدولية وزملائهن لخطر العنف المبرر أيديولوجياً.Open imageOpen imageOpen image
(صور من منشورات سعيد نحاس حول اتفاقية سيداو ومعاداة النسوية تعادل معاداة السامية)
ولقد تصاعدت هذه النبرة العدائية بشكل خاص بعد خطبة جمعة ألقاها رئيس المجلس الإسلامي السوري الشيخ أسامة الرفاعي في السادس من شهر آب/أغسطس في منطقة إعزاز قرب حلب خاطب فيها المجتمع المحلي محذّراً من عمل النساء في المنظمات الدولية الناشطة هناك واصفاً إياهنّ بالخارجات عن الدين والتقاليد، وبالمجنّدات من قبل الغرب والأمم المتحدة بهدف هدم استقرار الأسرة والمنظومة الاجتماعية في سوريا، من خلال بثّ فكر دخيل ومحرّم حسب قواعد الشريعة الإسلامية كما قال.Open imageOpen image
(صورة بوست فيسبوك بيان الريحان -Bayan Rehan – في ردها على خطبة الشيخ أسامة الرفاعي بتاريخ 11 أب/أغسطس)
وكان اللافت في هذا الشأن أن العديد ممن تصدينَ للشيخ الرفاعي وعبّرن عن رأي مخالف لما قال كنّ من السيدات المحجّبات، أي الملتزمات إسلامياً، واللواتي لجئن إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن رفضهن لخطابه التحريضي المبطن والمجحف بحق النساء.
فيما اعتبرت أخريات أن هذا الخطاب من الشخصية الاعتبارية التي يمثلها الشيخ الرفاعي والتي ترمز للإسلام الوسطي المعتدل يشكّل خطراً جدياً في المجتمعات المحلّية البسيطة خاصة تلك التي تتطلع للاهتداء به في تفسير الإسلام ، وأن هذا الخطاب هو خطاب كراهية بامتياز يعكس توجهات المؤسسات الدينية الذكورية التي تعارض وترفض دور المرأة و استقلاليتها، وتسعى بطرق شتى إلى إعادة إخضاع النساء والحدّ من فعاليتهنَّ، على اختلاف مشاربهنّ واختلاف مجالات عملهنَّ، باستخدام الدين، وذلك على الرغم من أن عمل النساء في هذه المرحلة بات أمراً ضرورياً لكل أسرة في مجتمعات ما تزال ترزح تحت سطوة الاقتتال المسلّح وحرب الإبادة التي يشنّها نظام الأسد وحلفاؤه.
وتضيف إحدى النسويات أن هذا التحريض ضدهنّ وضد مشاريع تمكين المرأة في مناطق المعارضة هو دعوة إلى التهميش الكامل في ظل انتشار المخاوف من الاضطهاد الديني الاجتماعي ضد النساء العاملات أو الناشطات، وضد أزواجهن أو آبائهن الداعمين لهن، مما يعيدنا إلى ما كانت عليه الأحوال قبل ٢٠١١ في ظل الاستبداد الأسدي الذي كان، على الرغم من علمانيته المدعاة، يستند في قوانين الأحوال الشخصية إلى المرجعية الدينية وليس إلى دستور مدني.
وفي سياق متصل، أصدرت مديرية الأوقاف والشؤون الدينية في مدينة الباب في حلب في ١٥من أيلول/سبتمبر بياناً بعنوان (وقفات عند دعوات الجندر والنوع الاجتماعي التي تستهدف المرأة في مجتمعاتنا) اتهمت فيه الدورات التدريبية التي تجريها المنظمات الدولية بالتعاون مع المنظمات النسوية السورية العاملة في مناطق المعارضة (المُحررة) بأنها مشبوهة ومخالفة للعرف والدين، وتؤكد فيه (البند الثاني) أن النساء لا يتعرضن لأي تمييز أو حرمان من الميراث، ولا يتم الاعتداء عليهن بداعي الشرف “بغير وجه حق.” ولقد فسّرت إحدى الناشطات هذه العبارة الأخيرة على أنها في جوهرها شرعنة ودعوة مبطنّة للقتل “الحلال” المبرر بحسب الشريعة أو الأعراف المحلية.
ويشير البند الثالث من هذه الوثيقة إلى أن الأموال التي تضخّ على التدريبات الدولية تعدّ “مشبوهة” وأن المنظمات المحلية التي تتلقاها تعدّ “مأجورة” وتدعو لثقافة الانحلال الجنسي والشعوذة والسفور والفساد الاجتماعي.Open image
(صور القرارات السابقة من صفحة مديرية الأوقاف والشؤون الدينية في مدينة الباب)
تزامن نشر هذا البيان مع صدور تعليمات جديدة لمديرية التربية والتعليم في مدينة الباب التابعة للمجلس المحلي تفرض على التلميذات في جميع المراحل الدراسية، أي من سن ست سنوات فما فوق، “التقيد بارتداء الحجاب للطالبات باللون الأبيض ومنع مظاهر الزينة.” وتخشى النسويات أن هذا التوجيه الإداري، رغم أنه غير قانوني، سيأخذ مع ذلك مجراه ليصبح مع الوقت أمراً تنفيذياً وخاصة أنه ارتبط بالعقوبة في حال مخالفته في نوع من فرض لأمر واقع في ظل فوضى الحرب.Open image
(صور قرار مديرية التربية والتعليم في مدينة الباب)
من ناحية أخرى، تشير بعض النسويات بتهكم إلى اعتماد اللون الأبيض في التعليمات الجديدة، وهو اللون الذي طالما ارتبط بتيار الإسلام المعتدل في سعيه للتمايز عن التيارات الجهادية المتطرفة وحكومة الإنقاذ التي تعتمد اللون الأسود الكامل فيما يتعلق بزي النساء الذي تفرضه عليهن في المناطق الخاضعة لسيطرتها والتي تستقي قوانينها من تعاليم جبهة النصرة المتشددة والمصنفة كحركة إرهابية.
وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أن المجالس المحلية التي تشرف على إدارة ما يعرف باسم المناطق “المحررة” تعرف بتبعيتها المباشرة للحكومة التركية ويتم تمويلها من خلال عائدات المعابر الحدودية، ولا تخضع عملياً للحكومة المؤقتة ووزاراتها المختلفة.
النمو المستمر للحركات النسائية
ورغم العوائق التي وضعتها شخصيات محلية في السلطة، يعدّ الحِراك النسوي السوري حِراكاً حقوقياً غنياً تتزايد نشاطاته بشكل متصاعد في الآونة الأخيرة، وتطرح النسويات من خلاله، وتحت هياكل مختلفة، الأفكار والمفاهيم المتعلقة بحقوق المرأة كجزء لا ينفصل عن حقوق الإنسان. ويعكس هذا الحِراك الاختلافات الأيديولوجية المنتشر في الساحة السورية، فنرى فيه النسوية الإسلامية التي تستند إلى مرجعيات الدين الإسلامي، والنسوية الوسطية التي تعتبر أن من حقّ المرأة اختيار ما يناسبها كإنسان حر آخذة بالاعتبار الانتماء الديني وطبيعة الأعراف والتقاليد السائدة محلياً وقدرتها على مواجهة المجتمع، إلى النسوية الراديكالية التي تعتبر أن الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها المجتمعية تضطهد المرأة بوضوح ولا يمكن أن تتوافق بشكلها الحالي مع مبادئ النسوية والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوقها.
وعلى الرغم من هذه الاختلافات الكبيرة في المواقف والطروحات، تتوافق النسويات من جميع التوجهات على أنهن ومهما حاولن تلطيف خطابهن النسوي ومطالبهن الحقوقية سيستمر المجتمع الذكوري في تعنيفه لهن وفي التعامل معهن كمصدر خطر للقيم التي يبشّر بها وستستمر بالتالي الحملة ضدهن وقد تصل حدّ التحريض الجدي على الجريمة خاصة مع انتشار الحوارات النسوية على شاشات التلفزة وإصرارهن على طرح قضية حقوق المرأة كقضية الساعة بامتياز.
تستشعر النسويات خاصة والنساء السوريات عامة الخطر المتزايد ضدهن بشكل مباشر وضد حقوق النساء بشكل عام وتعتقدن، حسب ما يتم تداوله من آراء ونقاشات وتحليلات، أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد أثار موجة جديدة من التصعيد ضدهن. إذ تعاملت الأوساط المحلية، بما فيها تلك الموصوفة بالاعتدال، مع الانسحاب الأمريكي كانتصار للفكر الجهادي الطالباني.
وفي هذا الشأن، نشرت الحركة السياسية النسوية السورية في الثاني من أيلول/سبتمبر الماضي ورقة بعنوان (أفغانستان ونساءها في مهب التطرف والإرهاب، ماذا عن المحتفلين لدينا؟) تناقش الوضع القائم واحتفال الأوساط في المناطق المحررة “بالانتصار الطالباني،” وتتساءل حول مستقبل النساء السوريات في ظل هذا التطرف المتزايد وفي سياق التجييش المستمر من خلال اللوحات الطرقية، تحت مسمى “حراسة الفضيلة.
هناك تحريض ذكوري واضح ضد لباس المرأة وربطه بشرف الأب والأخ والزوج، فالنساء في تلك المناطق لا يمكنهن الخروج دون اللباس الشرعي الإسلامي، وأن الناشطات اللواتي يدخلن تلك المناطق من تركيا يضطررن إلى اتباع هذا العرف العام بغض النظر عن انتمائهم الديني.Open image
(صورة حراسة الفضيلة من مديرية أوقاف سلقين حول شرف الذكور في لباس النساء)
(نحن في ثورة مضادة وإن ما يحدث هو حرب بين استبدادين) هذا عنوان لبحث قامت به السيدة لينا وفائي، عضوة الحركة السياسية النسوية السورية، في توصيف للواقع الذي تواجهه النساء ما بين استبداد الأسد واستبداد الإسلام السياسي، فتعبر عما تراه النساء في هذه المرحلة وما يجعلهن يتحركن في دأب إلى توجيه أنظار العالم حول ما يقمن به وحول الوعي الجديد الذي بدأن بتكريسه في الأوساط النسائية، وحول الحرب الذكورية الشعواء التي يواجهنها على مختلف الأصعدة.
دعوة النسويات السوريات للمنظمات الدولية
هذا ما حاولت عضوة الحركة السياسية النسوية السورية، ربى محيسن، تلخيصه في الإحاطة التي قدمتها في مجلس الأمن في الثامن والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر حول الشأن السوري والتي شدّدت فيها على ضرورة عدم الفصل بين ما تعانيه النساء السوريات اليوم وبين الحل السياسي الذي يتم العمل عليه تحت إشراف الأمم المتحدة، منوّهة إلى أن القضايا الأساسية لاستتباب هذا الحل لابد وأن تنطلق من حلّ مسائل جوهرية تمسّ النساء خاصة، وعلى رأسها وضع المعتقلين والمختفين قسرياً عند نظام الأسد، فللمعتقلين زوجات وأمهات وبنات ما يزلن يطالبن بهم حتى اللحظة، وللمعتقلات أيضاً عائلات تطالب بهن. وهناك أيضاً حق عودة النساء إلى بيوتهن في المدن والقرى التي تم تهجير سكانها خاصة أن كثيرات أصبحن هن المعيلات بعد مقتل أو اختفاء أزواجهن.
لطالما كانت النساء هن الضامنات للسلام والاستقرار وإعادة الإعمار بعد الحروب في العالم وعبر التاريخ، والنسويات السوريات يعين بقوة دورهن كقائدات للتغيير الحقيقي وكضامنات للعدالة التي لا تتجزأ عن أمالهن وآلامهن، وكناجيات من عقد مدمر من الحرب. لذا، تتفق النسويات السوريات في مطالبة المجتمع الدولي عامة والولايات المتحدة خاصة بضرورة الاستمرار في تنفيذ قانون قيصر، وعدم التهاون مع نظام الأسد أو التطبيع معه، أو قبول قيام حلفائها في المنطقة وحول العالم بالتطبيع معه.
كما وتطالبن هؤلاء الناشطات بملاحقة نظام الأسد قانونياً فيما يتعلق بانتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان في سوريا وبجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها وما يزال، بنفس الحماسة التي تتم من خلالها ملاحقة الحركات والشخصيات الإرهابية حول العالم خاصة وأن نظام الأسد كان دائماً متهماً على الصعيد الدولي بدعم هذه الحركات والشخصيات ومتواطئاً معها.
وتطالب النسويات السوريات أيضاً بألا يتركن وحيدات في مواجهة قمع نظام الأسد والقوى المتطرفة لهن، وأن يستمر الدعم الدولي لهن ولمنظماتهن في الداخل السوري وخارجه بكافة وسائل الدعم المادي والتقني والمعرفي، وأن يتم التشديد والتدقيق في أي دعم يقدم لمنظمات سورية لا تراعي في أنظمتها الداخلية التواجد النسائي الواسع والفعّال، ولا تتضمن الاعتراف بحقهن كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان بمرجعية اتفاقية سيداو وغيرها من الاتفاقيات الدولية.