مالينا حسون
هنا أيضا، ترتبط عبارة الشرف بالنساء، لكن وللأسف إنه مجرد تحايل عليهن وهروب استباقي من واجب دعمهن.
يعرّف الجميع العاملات المنزليات بأنهن نساء شريفات! لا يأكلن من أثدائهن ولا يعملن في الدعارة، ويزيد البعض من تثقيل قيمتهن بإضافة عبارة أرملة مثلا مع أن زوجها حي يرزق، او (عم تربي يتامى) لتعظيم الشفقة، مع ان أولادها ليسوا بيتامى، وربما تكون امرأة متزوجة بدون أطفال وربما غير متزوجة أصلا.
الخلاصة أنه لا أحد يعطي عملهن قيمته الفعلية، ولا أحد يتعامل معهن على أساس أنهن عاملات منتجات ويحققن دخلا شهريا أو يوميا، دخلٌ مجهّل وغير معلن وغير معترف به حتى في أرقام ناتج الدخل الوطني، ولا يتم إدراجهن في قوائم المشتغلات، بالتالي هنّ حكما خارج قوة العمل، لا نقابة تمثلهن او يمكنهن اللجوء إليها، ولا يحميهن أي شكل من أشكال الضمان الصحي أو المجتمعي أو الاقتصادي ولو كان حتى على شكل عقد عمل يومي، ليقعن في مطب التوصيف العاطفي والتشغيل الاستغلالي.
خلود: (في الثامنة والثلاثين من عمرها تسكن في مخيم الوافدين قرب دوما، تبلغ المسافة بين منزلها ومكان عملها حوالي 17 كم) تعمل في البيوت في منطقة التجارة تحديدا، يبدأ يومها منذ السادسة صباحا، تخرج من بيتها مع أربع شريكات في الشقاء، عليها العودة إلى البيت في تمام الواحدة، لأن العاملات الخمس ملتزمات مع سائق محدد ملتزم أيضا بدوام مدرسي في نفس توقتيهن. تعمل خلود ستة أيام أسبوعيا، وفي مواسم التعزيل قد يصل عدد ساعات عملها إلى عشر ساعات يوميا، وفي هذه المواسم يكون العمل مرهقا وشاقا جدا مع أنه يبدو بشكله العام مجز ومدر للدخل، المرض ممنوع، والتعب خارج كل الاعتبارات، ثمة عمل ينبغي إنجازه، وكل المخاطر واردة في ظل بيئة عمل غير آمنة واستغلالية، لا تنسى خلود كيف طردتها صاحبة أحد البيوت لظنها أنها مصابة بالكورونا دون أي سعي للتحقق، ولا تنسى اختها التي فقدت الإحساس بإصبعين في يدها اليمنى جراء كسر لوح زجاجي وهي تنظفه، لم تسعفها صاحبة البيت يومها ، تركتها تذهب للمستوصف لوحدها ولم تحاسبها على عملها الذي كاد أن ينتهي بذريعة أن أجر عملها لأسبوع كامل لا يساوي قيمة لوح الزجاج المكسور.
تتقبل بعض صاحبات البيوت أن تؤجل خلود جزاً غير ضروري من كامل واجباتها بسبب ضيق الوقت مثلا، مثل مسح نوافذ غرف النوم للأسبوع القادم، لكن البعض منهن يصر على ضرورة إنهاء خلود لكل طلبات صاحبة البيت، كما تمتنع غالبية صاحبات البيوت عن دعوة خلود لمائدة الإفطار بذريعة عدم تضييع الوقت، يبدو هذا سببا مفهوما مع أنه غير مقبول، لكن بعض السيدات يعتبرن الإفطار خسارة إضافية تضاف إلى أجر خلود فيمتنعن عن ذلك.
تتسع دائرة العنف الواقع على العاملات المنزليات، تضيق الحلقة على أضعفهن، وينتقل العنف من الأمهات إلى البنات وزوجات الأبناء وليس من صاحبات البيوت فقط، ثمة حدود صارمة وكل شيء بثمنه، مع أن العدالة غائبة، حتى عدالة استحقاق يوم أو يومين للراحة من عناء عمل مجهد.
عائشة: (تبلغ من العمر ستة وثلاثون عاما، وتقيم في قرية زاكية في ريف دمشق، تبعد حوالي 35 كم عن دمشق) قامت بتدريب ابنتها البالغة من العمر سبعة عشر عاما، على العمل في البيوت باصطحابها المتكرر للبيوت التي تعمل فيها، اشترطت ان يكون عمل ابنتها الجديد في ذات الحي وربما في ذات البناء الذي تعمل فيه والدتها، دربتها في البيت أيضا على الصمت وتجاهل الإساءة وعدم الرد بوجه صاحبات البيوت، دربتها مرارا وتكرارا على ترديد عبارة تكرمي، وحاضر، حتى أنها دربتها على طريقة تناول الطعام إن تمت دعوتها إليه! كل شيء مرسوم بدقة وبتقبل فائق للظلم، عالم نظن انه مجرد ساعات محددة من العمل وكفى، لكنه عالم متوحش وظالم، بلا ضوابط وبلا حماية أو أدنى اعتراف بالحقوق.
ضاقت عائشة ذرعا بحجم العمل الكبير المترتب عليها، تعمل يوميا خارج المنزل لمدة تتجاوز الساعات الست عدا عن ساعتين وربما أكثر تهدرها عائشة على الطرقات للذهاب والعودة، زوجها عاطل عن العمل يسهر في الليل وينام في النهار، يرفض ان يرعى والدته المصابة بالزهايمر وبالسكري وبأمراض أكثر من أن تحصى، تفتق ذهن الزوج عن خطة اعتبرها قمة في العبقرية، سيزوجون ابنهم البكر البالغ من العمر سبعة عشر عاما فقط! أي أنه مازال طفلا، لطفلة أيضا وهي ابنة عمه التي تبلغ الخامسة عشرة من عمرها، وتصير زوجة الابن هي المسؤولة عن المنزل والطبخ والتنظيف لكامل العائلة إضافة إلى خدمة وتمريض الجدة العجوز، بضحكة بلهاء واسعة قال زوج عائشة لها: سترتاحين وتصيرين ملكة!
إنها السخرية القاهرة! المرارة غير القابلة للبلع، ملكة؟ على أي عرش؟ ومن سيتحمل عني مشاق التعب المتراكم؟ سنضيف إلى العائلة فما جديدا، سينجب افواها جديدة أخرى لا يعلم أحد عددها ولا حجم المصائب التي ستولد معها، وينبغي عليّ وحدي تأمين طعامها وكساؤها وطبابتها وتعليمها إن وجدت للتعليم سبيلا، كان الحل مدعاة للسخرية وللمزيد من القهر، للرغبة في التلاشي والزوال عن كل هذا العالم القاسي.
رفضت عائشة خطة زوجها العبقرية وتمنت موته السريع أو موتها، حيث لا خلاص من القهر والشقاء إلا بالموت، صار الموت حلا ومن غير المجدي أبدا إطالة الاحتضار الصعب والمرهق في ظل غياب تام للدعم أو المشاركة، كانت قادرة على الرفض لأنها الوحيدة القادرة على الإنفاق، قررت الرفض كي لا تتسع دائرة العنف وتتحول عائشة من مظلومة إلى ظالمة.
تقول لي عائشة: السيدة التي اعمل في منزلها تناديني يا أختي، تقول للجيران بأنها وأولادها لا يحبون طبخها ويعتبرونني ماهرة وذات نفَس مميز في الطبخ، تضحك ساخرة وتقول: بماذا يفيدني كل هذا الإطراء؟ لا شيء أبدا سوى المزيد من التخجيل باعتماد أسلوب غير بريء لتمرير المزيد من الطلبات والأوامر ولكن بلطف مصطنع وغير حقيقي! وإذا ما تراجع أدائي يوما، تفرج عن غضبها وتهدد بتبديلي بعاملة أخرى وتقول: ثمة المئات من العاملات اللاتي يتمنين العمل عندي!
السادسة صباحا، في الحافلة المتهالكة جلست اثنتا عشرة سيدة يقطنّ جميعهن في مخيم جرمانا، يتوجهن من مكان سكنهن نحو جسر الرئيس حيث تتجمع حافلات النقل إلى أحياء دمشق الغربية الموصوفة بسعة الأحوال المادية لسكانها، ست منهن يعملن منذ عشر سنوات وربما أكثر في بيوت محددة، واربع منهن يعملن كطباخات في بيوت تفضل صاحباتها حضور العاملات شخصيا للطبخ فيها وبإشرافهن المباشر، يقمن بإعداد الكبب وجبات ورق العنب والمحاشي والفطائر والكرشة ، وجبات تقليدية لكنها تحتاج مهارات مميزة وجهودا مضنية ، تلتزم غالبية العاملات بعملية جلي الأطباق والقدور وبعضهن لا تغادر المنزل إلا بعد تقديم وجبة الغداء لسكان البيت وتنظيف الطاولات والمطابخ بصورة كاملة، أما السيدتين الباقيتين فيعملن كجليسات نهاريات عند سيدتين متقدمتين في العمر، يطهين لهن وينظفن غرفهن ويمرضنهن بالمساعدة على السير أو بإعطاء الدواء في وقته ،قالت إحدى العاملات: إن المرأة التي تجالسها ثقيلة الوزن ولا أحد يشاركها في رفعها عند تغسيلها أو تبديل حفاضاتها، مما يتسبب لها بآلام عظيمة ومضنية وتشعر بأنها قريبا جدا ستفقد قدرتها على الحركة بسبب هذا العمل المجحف والقاسي.
يبرز الصراع على أشده، نساء حي محدد يتوجهن كل صباح مثقلات بالتعب والمتطلبات العائلية الكثيرة ليخدمن عائلات قادرة على الدفع مقابل خدمات محددة، والقدرة على الدفع هنا لا تعني تأمين كفاية العاملات، ولا تمتعهن مقابل العمل بحقوق طبيعية كعاملات في أي مجال آخر، يتصاعد الظلم هنا لتعتبر أي عاملة تزودها صاحبة البيت ببقايا الطعام مكسبا وعطاء عظيما.
منى: (تبلغ من العمر أربعة وثلاثون عاما، تعيش في مخيم جرمانا، تبلغ المسافة بين منزلها ومكان عملها 22 كم) ينحصر عملها في المطبخ فقط، قالت بتأثر كبير: ذات يوم، وفور انهماكي بخلط اللحم مع البرغل لإعداد الكبب رغبت بالبكاء، طراوة اللحم وبرودته على أصابعي أيقظت تلالا من الحرمان، وتساءلتُ بمرارة كم شهر مضى دون أن يتناول أطفالي اللحم؟ لا أنكر أن صاحبة البيت ستقدم لي قرصا أو قرصين لآكلهما هنا، لكني سأغص بهما حتى أكاد أن أختنق، اخجل من أن امتنع عن الأكل بذريعة انني اشتهيت ان يأكل اطفالي من هذا الطعام، ستعتبره السيدة تسولا بطريقة غير مباشرة وطلبا دنيئا لتزويدي بالمزيد منه لأطفالي، الحرقة هنا بأنني آكل ولا أشبع ولكني مع هذا أتمنى لو أستطيع تخبئه أقراص الكبة لمنحها لأطفالي لاحقا.
تتلقى العاملات المنزلية أجورهن بشكل يومي، بعض صاحبات البيوت يمنحن القليل من العاملات تعويضا بسيطا من أجرة النقل، وبعضهن الآخر يمنحن العاملات عيدية صغيرة في الأعياد، لكن غالبية العاملات تعود إلى بيوتها بأجرها اليومي فقط بعد دفع أجور النقل.
تقول أمينة: (تبلغ من العمر اثنان وأربعون عاما ، تعيش في قرية جديدة الفضل، يبعد منزلها عن مكان عملها حوالي 26 كم) زوجي ينتظرني على الباب، أحضر له علبة الدخان، كان يسطو فعليا على كامل أجري، لكن بعد إصابته بالسكري وبعد أن هدده ابني الكبير مرة بأنه سيقتله إذا ما كرر فعلته الدنيئة، كنا حينها نبقى دون طعام ودون دواء وحتى دون ماء لأننا نشتريه بسبب عدم وجود ماء صالحة للشرب في حينا البائس، بعدها تراجع زوجي عن السطو على أجري، صرت وقبل وصولي إلى البيت أمر أولا على سوق الخضار الشعبي، أشتري علبة الدخان لزوجي، وما يتيسر من الخضار الرخيصة لإعداد وجبة الغداء. علمتني إحدى شريكات الشقاء ألا أصرح عن قيمة كامل أجري ولا عن الإكراميات أو العيديات مهما كانت قليلة، في صدري محفظة صغيرة ورقيقة جدا، لا تفارق صدري ابدا، أجمع فيها القليل تحسبا لحالة طارئة أو مرض يستوجب الإسعاف للمشفى، في ضحكة غامرة وسخية قالت لي: لا أخفيك في أحد الأيام دعوت بناتي وأحفادي لتناول البوظة بعد طول حرمان وتشوق لها، وأردفت: مازلنا نضحك بشدة عندما نتذكر تلك الفسحة الجميلة والسعيدة، وأفكر دوما بتكرارها رغم الغلاء الشديد وارتفاع أسعار البوظة.
لم تفصح أيا من العاملات المنزليات عن صاحبة منزل منحت إحداهن أجر يوم إضافي عن العطلة الأسبوعية، حتى العاملات اللاتي يعملن بشكل متواصل في نفس البيوت لا أحد يدفع لهن أجور يوم العطلة ولا تعويض عن إصابة ما، أو حتى كلفة وصفة دوائية للعلاج من عرض صحي طارئ، بالعكس تخاف العاملات المنزليات بشدة من المرض ولا يظهرن تعبهن أبدا ولا يعترفن بأوجاعهن، مخافة أن يجلسن في البيوت بلا أجر وبلا أي تعويض، عاجزات عن تأمين لقمة أولادهن وقائمة الاحتياجات الطويلة والمرهقة.
ذات مساء، كنت في حافلة متهالكة مع مجموعة من العاملات المنزليات، استسلمن للنوم فور سير الحافلة، وفي المحطة الأخيرة غادرن الحافلة نحو حييهن الهش كأعمارهن وكأجسادهن، كنت معهن أيضا حين استقلين حافلة جرمانا باب توما ، واصلن النوم فورا، والغريب أنهن كن مطمئنات بأنهن لن يتهن عن عنوان بيوتهن ولن يخطئن في الاستيقاظ لحظة الوصول ، كان المشهد مؤلما وساخرا في ذات الوقت ، عند موقف مخيم جرمانا استفقن فجأة وكأن شخصا يوقظهن ، صرخن على السائق ليتوقف ، غادرن الحافلة بصمت مطبق، وحكاياتهن بقيت معلقة في الهواء علّ أحدا ما ينصت إليها ، غادرن الحافلة وتركن أعمارهن هناك على المقاعد المهترئة تترجى عدالة مغيّبة وبعضا من الراحة.
ملاحظة: كافة الأسماء مستعارة.