نهى سويد
في عين العدسة السينمائية، حيثُ تلتقط الصورة الحقيقة المؤلمة، برزت قضيةُ العنف ضدَّ النساء كتحدٍّ جمالي ورسالة عميقة تحملها السينما العالمية. تحاكي الكاميرا ألمَ النساء، وترصدُ ملامحَهُنّ وما خلف ندوبِهُنَّ، وتجعلُ من صمتِهُنَّ صوتًا مدويًّا.
لم يكنْ الطيفُ اللونيّ الممتدُّ من الأرجوانيّ إلى البرتقاليّ مجرّدَ مساحةٍ لونيّة على الشاشة؛ بل هي شيفرة بصريّة، تنبضُ بدلالاتٍ تعكس مشاعرَ متشابكة من الجراح، والقوة، والأمل المكبوت، فالبرتقاليّ هو جزءٌ من الأرجوانيّ، وامتدادٌ بصري وفكري لعوالم المعاناة والتحرُّر على حدٍّ سواء. يحمل الأرجوانيّ ذاكرةً من الجراح المكبوتة، يختزل تجاربَ قاسية تتجاوز اللونَ لتمسَّ عُمق الإنسانية. أمّا البرتقالي، بتعبيره عن الأمل المتجدد، يبقى ظلًا نابضًا في الأرجواني، متجسدًا في ثنائية تتماوج بين العذاب والنهوض. بهذا الإسقاط، تصبح الألوانُ أدواتٍ سرديّة، تفرضُ على المُشاهِدَ معايشة تجليات الألم والمقاومة، حيثُ يتحوّل حضور المرأة في السينما إلى قوّة صامتة لكن مؤثرة.
اللونُ الأرجوانيّ، في اختلاطه الغامض بين الأزرق الهادئ والأحمر الصّارخ، تجاوزَ دورَه كعنصرٍ جماليَّ بصري ليصبحَ رمزًا لواقع النساء المرير وقوّتهُنَّ في مواجهة الألم، وكأنَّ المخرجات والمخرجين أرادوا به إيقاظَ ذاكرة الإنسانيّة المتعبة للالتفات إلى آلام النساء الممتدّة عبرَ الزمن. تقترب السينما، بجرأة وحساسيّة، من هذا اللون لتنسجَ عبره قصصًا تلخّصُ التراجيديا الإنسانية للنساء اللاتي واجهْنَ القهر، وبدلًا من الخطاب المباشر، تتلاعبُ الكاميرا باللون الأرجواني وامتداده نحو البرتقالي بذكاء جماليّ يكثّفُ مشاهدَ العنف، ويكشف آثاره المعقّدة على النساء؛ ليُعبَّر بصدق عن التناقض الحاد بين ضعف الضحيّة وقوّة الإرادة المستترة تحت مظهر الانكسار.
وإذ نبحثُ في رمزية هذين اللونين في السينما، يتجلّى فيلم اللون الأرجواني، للمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ Steven Spielberg، بنسخته الأولى الصادرة عام 1985، كتحفةٍ سينمائيّة تجسّد تحوّل ندوب الألم إلى مسارات للتحرر الداخلي، وكيف يُعيدُ العنف الممارس تشكيل الهوّية لتصبحَ المرأة أقوى، وشاهدةً على الشفاء والانتصار على القيود المفروضة عليها.
يتناولُ الفيلم محورين رئيسين: وحشية الذكور ونتائجها، مقابل رحلة النساء نحو وعيهُنَّ الذّاتي ونجاتهُنَّ. في قلب هذه الرحلة، تقف “سيلي”، الشخصية المحورية، كرمز للمعاناة والتّحدي، إذ تنطلقُ من طفولة مؤلمة مليئة بالعنف الأسري والجنسي، لتعبُرَ نحو اكتشاف ذاتها وهويتها بفضل علاقاتها النّسوية الداعمة، مثل علاقتها بأختها “نيتي” وحبيبتها “شوغ”.
يبرزُ اللون الأرجوانيّ في مشهد الافتتاح بلقطة واسعة، حيثُ تتجوّل سيلي مع أختها نيتي في حقول مليئة بالأزهار الأرجوانيّة. مشهد يضفي جمالية هادئة وساحرة على الشاشة، فهذه الأزهار ليست سوى خلفية للتجارب الأليمة التي ستبدأ بمطاردتها، ابتداءً من انتهاك طفولتها من قبل الأب، وانتهاء بزواجٍ قسري وظالم، لنجدَ أنفسَنا أمام تكوينٍ بصريّ يُعبّر عن عذابات شخصية سيلي، الفتاة التي تتأرجح بين طفولتها وصدماتها.
في هذه اللحظة، يلتقطُ سبيلبرغ ببراعة تلك النظرة المُنكسرة في عينيّ سيلي، والّتي تحمل في طيّاتها القبولَ القسري للواقع المرير؛ فنرى كيف أنَّ حياتها خاضعة لقسوة قديمة، فمنذ صغرها تتعلم الرضوخ والاستسلام لعنف مبطن بغياب الأمان. هذه اللحظة، رغم هدوئها، تُعدُّ بمثابة تكثيف بصريّ للمفارقة التي ستطبع حياة سيلي لاحقًا. فالزهور الأرجوانية، التي تملأ المشهد، تُشير إلى التوتر بين البراءة التي لا تدركها سيلي بعد، والألم الذي يقترب منها. سيلي، كبطلة الفيلم، والتي قامت بدورها الممثلة ووبي غولدبرغ Whoopi Goldberg، لا تقتصرُ على تمثيل المرأة المعذبة فحسب، بل تتحول هذه اللحظات المبكرة إلى تأسيس فكرة قُدرتها على المقاومة والتحول؛ فخيوط البرتقاليّ الممتدة من لون الشمس تُصبح رمزًا للتحولات الكبرى في حياتها، بداية من المعاناة العميقة إلى الشفاء والانتصار على القهر.
في أبعاد الفيلم، يَظهرُ اللون الأرجوانيّ وطيفُه من البرتقاليّ كإطار يجمع بين قسوة الحياة وجمال العالم المخفي، مما يعكس آلام بطلة الفيلم “سيلي” والنساء الأخريات اللواتي عانين من التمييز والعنف. فمشاهدُ الطبيعة بزهورها الأرجوانية مع شروق الشمس تلمّح إلى فرصة النجاة والتصالح مع الذات، وكأنّ الطبيعة هي المساحة الوحيدة التي تتيح للنساء استنشاق معنى الحرية.
يأتي البرتقاليّ ليضيفَ للفيلم بعدًا آخر، ويخلقُ هذا التضاد بين قمع سيلي، ومحاولاتها الصمود، فيتّخذُ بعدًا رمزيًا أعمق يُشير إلى روح المقاومة الصامتة التي تكمنُ بداخلها. سبيلبرغ يستخدمُه في خلفية المَشاهد والإضاءة ليجعلَ سيلي تتواصل مع الجانب غير المرئي من ذاتها، حيث تُنمّي شجاعة تكسر القيود. في مشهد مؤثر، تُعيد “شوغ” لـ”سيلي” ابتسامتها المفقودة، هذه اللحظة بمثابة نقطة التحول في حياة “سيلي” حيثُ تبدأ بالتصالح مع جسدها وابتسامتها، ومع ذاتها، يعكس البرتقاليّ قوةَ الروابط الإنسانيّة التي تنقذُ بطلة الفيلم من وحدتها، حيثُ تحتضنها كظلٍّ دافئ يُعيد لها الشعور بالحياة والطمأنينة، ويبدو كشريان النجاة، الحبل الذي يمتد ليصل بين الألم والعزاء، بين الهزيمة والنهوض.
يَبرزُ اللون الأرجوانيّ كرمز للألم والهيمنة الأبويّة التي تتعرض لها سيلي، حيثُ يُستخدم ليمثلَ الصمت المفروض قسرًا عليها والقمع العميق الذي يغلّف حياتها. هذه الدلالة العميقة لا تقتصر على لون الحقول أو الملابس، بل تمتد لتكون انعكاساً للتجربة المُعاشة نفسها؛ إذ يرمز الأرجواني إلى حياة سيلي المقموعة، حياة منحنية تحت ثقل التقاليد العنصرية والجندرية. سيلي، التي كانت أشبه بزهرات أرجوانية داستها الأقدام بلا مبالاة، تعيشُ في عالمٍ يمنعها من التفتّح، يحدّ من صوتها، ويجبرها على الاستسلام لقوة تضرب جذورها في الاستغلال والسيطرة.
يمنح الأرجوانيّ الفيلمَ دلالة أكثر عمقًا تتجاوز حدودَ الألم، لتعترف بقصص النساء السود وتستعيد تاريخهُنَّ. هنا، يصبح الأرجواني لوناً دالًا على الشفاء، رمزًا للتحرر عبر التواصل مع هذا الماضي المؤلم؛ فيلم اللون الأرجوانيّ يفتح الباب للنساء السود كي يَرَيْنَ أنفسَهُنَّ في الشاشة، حيثُ يصبح هذا اللون دليلًا بصريًا على عمق تجاربهُنَّ وقدرتهُنَّ على التعافي. كلُّ مشهد يُبرز اللون الأرجواني هو بمثابة مساحة للتأمل في الألم المشترك، وفي إمكانية التحول، ليُعبّر بذلك عن واقع التجربة النسويّة السوداء، وكيف يمكن أن يكونَ الاعترافُ بها وسيلة للخلاص من القيود التي تطبع ذكرياتهُنّ.
الأرجوانيّ هو حجر الزاوية في بناء اللغة السينمائية التعبيرية لهذا الفيلم، إذ يربطُ بين الكلاسيكية والرؤية المعاصرة بحسٍ رمزيّ عالٍ. مما يمنحُ الفيلم قوّةً بصريّة وبعدًا عاطفيًا لا يمكنُ تجاهله، يبتعدُ سبيلبرغ عن العشوائية في التعامل مع اللون، ليجعل كلَّ ظلٍّ أرجوانيّ خيطًا ينسجُ سياقًا من التجارب والتحديات. يتجلّى هذا بوضوح في تداخل السينما التجريبيّة والشعريّة، حيث يغدو اللون جزءًا من تكوين سينمائيّ يطرح أسئلة حول الهوية، العرق، والجنس، ويضعُ اللون الأرجواني كتحفةٍ فنيّة مكتملة، لا تُعنى بتقنيات حرفيّة فقط، بل بالتأثير الشعوري الذي يخلقه اللون، فكلّ صورة أرجوانيّة هي إضاءة على الجمال المتواري خلف المأساة.
وهذا ما نجده في مشهد “سيلي” وهي ترتدي ثياب “شوغ”، حيث نرى مزيجًا من الفانتازيا والشاعرية، وكأنّها طقوسٌ احتفاليّة بتحررها وانعتاقها من القيد النفسي والجسدي.
في حين استُحضر البرتقالي في الموسيقا التصويرية لكويني جونز Quincy Delight Jones، لتكون الموسيقى صوت سيلي المكبوت. حيثُ منحها البرتقالي قوةً غير مرئيّة للتعبير، وكأنَّ هذا اللون بدلالته على الأمل والشفاء صدى لصمت سيلي، فهو أكثر من لون في الخلفية، إنّه نبضُ الفيلم الذي يكسرُ الصمت، حيث تُكمل الموسيقى الصور المتجذرة في اللون، معبّرةً عن أعماق لم تتسع لها الكلمات.
أمَّا تصوير ألين دافيو Allen Daviau، أضفى بعدًا بصريًا خاصًا، من خلال مزج مَشاهد الطبيعة مع عواطف الشخصيات، وكأن سبيلبرغ يريد أن يقول: “اللون الأرجواني وظلّه من البرتقالي”، كجمال متروك في الطبيعة، هو رمز للألم والجمال الإنساني.
يُعبّر اللون الأرجواني بعمق عن عنصرية البيض وأثارها على جسد المرأة السوداء وروحها. يتجسد هذا البُعد في شخصية “صوفيا”، التي تمثل رمزًا للمقاومة الصارخة في وجه التمييز والاضطهاد، وكأنَّها الزهرة الأرجوانية الوحيدة التي رفضت أن تُداس أو تُهمّش. يحملُ اللون الأرجواني هنا دلالة على الألم المتوارث، لكن أيضًا على شجاعة البقاء والصمود.
يَظهرُ اللون الأرجوانيّ كظلّ نفسيّ يعكسُ التمزّقَ بين الهوية السوداء والبيئة البيضاء المهيمنة في مشهد اعتقال صوفيا، حيثُ يمثّل الصراع الجسدي والنفسي الذي تعانيه صوفيا جرّاء هذا الاصطدام مع النظام العنصري، ويرمزُ إلى الجراح التي تتركها العنصرية على أجساد النساء السوداوات، ولكنّه أيضًا يعبّر عن القوة الداخلية التي ترفض الخضوع. كأنّ اللون الأرجواني في هذا السياق يستحضر حقيقةً غير مرئية، تلك التي تتعلق بجمال الكفاح من أجل الكرامة، على الرغم من العنف الجسدي والنفسي المسلّط عليهن.
يُعيدُ سبيلبرغ تشكيلَ اللون الأرجواني ليغدو لونًا متناقضًا من خلال مزيج بصريّ عميق يعبّر عن القهر، ولكنّه أيضًا لم يغفل عن البرتقالي بصفته شعاع متجدد لصمود النساء السوداوات، وإرث لنضالهُنَّ ضد سياسة الطمس والاضطهاد، ما يجعل من تلك الثنائية اللونية تجربة تخترق البصر إلى الجذور العميقة للعنف البنيوي داخل المجتمع.
الأرجوانيّ، ذلك اللون الذي صبغ دخانَ حريق معامل النسيج في نيويورك، حيث كانت النساء تعملنَ في ظروف إنسانية قاسية، أضحى في السينما رمزًا شاملًا لكلّ أشكال العنف الممنهج ضدهنّ. لقد تحول إلى عدسة بصرية تعكس شتى ألوان المعاناة، ويُجسّد بأسلوب لا لبس فيه ضراوة القمع والصراع من أجل الكرامة، وبحضور يشملُ البرتقاليّ ويحتضنُه، فيتجاوز كونه لونًا مجردًا، ليقفَ شاهدًا على التاريخ الموجع، مستحضرًا قصصًا مكتومة ونضالات دفينة تحت وطأة الظلم، إذ لم يكن عبثيًا اختيار البرتقالي من قبل الأمم المتحدة كلون يدللُّ على مستقبل مشرق وعالم خال من العنف ضد النساء.