ريما فليحان – المديرة التنفيذية اللوبي النسوي السوري
عبثاً أحاول استشراف الأمل، عبثاً تحاول عيناي النوم، حيث قلق الانتظار يقض مضجعي.
أمسك هاتفي المحمول كل صباح، أقرأ عناوين وتفاصيل الأخبار القادمة من شرقنا الملعون بالحرب، الملعون بالخوف والدمار، الملعون بالموت. أحاول تجنُّب فتح الفيديوهات، نفذت طاقتي وقدرتي على تحمُّل رؤية تلك الصور المعفرة بتراب الأنقاض، والتي تغص بجثث صغيره مكفّنة على عجل، صورٌ من سوريا لم تتوقف على مدى ثلاثة عشر عاماً، ومتكررة برتم مشابه من لبنان وفلسطين والسودان، ومن كل مكان تأكله الحروب والصراعات.
ونحن نفكر بحملة 16 يوم لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، تذكرت أننا لسنا خير، وأن النساء في أوطان جريحة لا يتشاركن المعاناة مع الجميع فقط، بل يدفعن أثمانا مضاعفة بسبب نوعهن الاجتماعي، كونهن نساء في مجتمعات ذكورية ودول تمييزية ولأنهنّ يتعرضن في الحروب لانتهاكات خطيرة ويستخدمن كسلاح حرب في الصراعات والحرب.
نعم مالي منيحة… جرحٌ في إنسانيتي يؤلمني…
على مستوى شخصي قد أخجل من القول إنني لست بخير، لأنني نجوت، يا لوقاحتي… كيف يمكن أن أشكوَ حالي أمام معاناة أكبر يعيشها الناس في وطني، نساؤه خاصة… فالسوريات يعانين الجوع والقهر والذل داخل ما تبقى من وطن، أو تحت سقف الخيم في أوطان تلفظهم، تقول لهن ارحلوا، موتوا، تشردوا… يلي فينا مكفينا… فهذا الشرق يضيق على قاطنيه…
وكأن الأرض لم تعد تُطيقنا.. وكأن الموت هو الوحيد الجاهز دوماً لاستقبال من يحمل جنسية تلك البلاد دون فيزا ولا تعقيدات.. أنتن عليكن الموت، الموت فقط…
تقضم الفوضى روح البلاد، فيتحكم بها المجرمون بأسمائهم المختلفة، تُعتقل النساء وتختطف، تعذب، وتُقتل بدم بارد… يعتقل الأطفال ويغيّب الأحبة، وتترك النساء من ذويهن فريسة للعنف الاجتماعي، والاستغلال، والعوز…
النساء في بلدي ممن فقدن الأحبة، وهجّرن من بيوتهن قسراً، ووقفن في أروقة المحاكم من أجل حقوقهن المنهوبة، وفي مديريات السجل المدني من أجل إخراج قيد، ليحصلن على جواب لسؤال يلاحقهنّ منذ اعتقال الأحبة، هل ما زال حياً؟
ما هي صفتي اليوم؟ زوجة؟ أرملة؟ أم ثكلى. ابنة أو يتيمة أو على قيد الأمل…
لسنا بخير: لم يسأل أحد النساء المرحّلات بالباصات الخضر إن كنّ يرغبنَ بالرحيل، انتُزعن من البيوت والأماكن والذاكرة… لسنَ بخير حين بيعت النساء الإيزيديات في سوق النخاسة لداعش، ولسن بخير حين رُحّلت العفرينيات من بيوتهن وتاريخهن قهراً…
لسن بخير، فالنساء ذوات الإعاقة يفتقدن الدعم الإنساني والاجتماعي والحقوقي والنفسي والمؤسساتي ويتعرضن للعنف الأسري والتمييز…
لسن بخير وهناك من النساء من هن محرومات من الملكية ومن الإرث، وهناك من يواجهن القتل بحجة الشرف ويتجرعن العنف الأسري كل يوم وكل لحظة.
قرر العالم أن يسمي النساء المنفيات ناجيات… وافقه المجتمع المدني والحقوقي أيضاً… لكن هؤلاء النسوة ربما لا يشعرن بنجاتهن، فحقائبهن داخل الصدور تحملن الذكريات المرعبة القادمة من بلد محكوم بالعنف..
يلاحقهن ذلك العنف حتى في تلك المنافي كظل بغيض تحت شمس مُحرقة؛ إنه ظل الماضي والصدمات، وظل واقع قد لا يخلوا من العنف الأسري لكثيرات، حتى في دول تحمي قوانينها المعنفات، فلا وصول لهن ولا دعم…
كمنفيات، نعيش أوجاع بلادنا التي تعشش في خلايانا كل يوم، لربما خرجنا من تلك البلاد، إلا أن تلك البلاد لم تغادرنا لحظة، نشهد الرحيل كل يوم، ونعيشه بأشكاله المتعددة، ثم نودع الأقارب والأصدقاء تباعاً حين يرحلون، دون أن نتمكّن حتى من عناق المرة الأخيرة، فعنف النظام وقمعه وأحكامه المتنوعة التي تنتظرنا تمنعنا من العودة لوطن لنا فيه حق وله فينا حق…
نعم .. مالي منيحة، لأن نساء بلدي لسن بخير.. مالي منيحة لأن أحلامنا تموت كل يوم على شريط الأخبار العاجلة… مالي منيحه لأن العالم خذلنا حين كنا وما زلنا نؤمن أن الإنسانية فوق كل اعتبار…