ميسون محمد
كان الليل يزحفُ بثقله على أزقة المدينة القديمة، حين جلست ليلى بجوار نافذتها الصغيرة تتأمل السماء الملبدة بالغيوم. في كل مرة كان صوت الرياح يشتد، كانت تشعر وكأنه يهمس لها حكايات نساءٍ أخريات، مثقلات بالوجع والصمت. كانت تعلم أن تلك الحكايات ليست بعيدة عنها، فهي نفسها تعيش واحدة منها.
بدأت قصة ليلى منذ سنوات، حين كانت طفلة صغيرة تراقب والدتها وهي تُعامل بقسوة لا ترحم. لم تكن تفهم حينها لماذا كانت أمها تصمت على الإهانات المتكررة، أو لماذا كانت تجفف دموعها بصمت في الزوايا المظلمة من البيت. كبرت ليلى وسط هذا المشهد المتكرر حتى أصبح مألوفًا، لكنه لم يفقد ألمه.
ذات ليلة، كانت ليلى تراقب والدتها حين جلست بجوارها ورفعت رأسها قائلة: “لماذا لا تتركينه؟” صمتت والدتها للحظة، ثم أجابت بنبرة مثقلة بالخوف والخيبة: لأنني لو تركته، لن يحميكِ أحد. لا قانون يحفظ حقنا، ولا مكان يلجأ إليه من تعاني مثلنا.
لم تنسَ ليلى كلمات أمها، كلمات حفرت في قلبها إصراراً على مواجهة واقعٍ لم يكن يوماً منصفاً. مع مرور السنوات كبرت ليلى وأصبحت طالبة في كلية الحقوق، تحمل في قلبها شغفاً لفهم القوانين التي حكمت حياتها وحياة كثير من النساء حولها.
بدأت ترى بعينها هشاشة النظام القانوني وعدم عدالته. قانون العقوبات الذي يضع النساء في مرتبة أدنى من الرجال، والمواد التي تُعامل العنف وكأنه تفصيلٌ عابر يمكن تجاوزه، كلها كانت سكاكين جديدة تُغرز في كرامة النساء كل يوم.
كانت تؤمن أن الصمت لم يعد خياراً، وأنها، كما كل النساء، تستحق حياة أفضل. لكن مع كل خطوة كانت تخطوها نحو التغيير، كانت تصطدم بحائط المجتمع والأسرة وحتى القانون نفسه، الذي لم يكن يوماً عوناً لها.
ذات يوم في قاعة المحاضرات، كان النقاش يدور حول قانون العقوبات السوري، حين طرح الأستاذ موضوع النصوص القانونية المتعلقة بالعنف الأسري. تحدث بأسلوب يوحي وكأنه يبرر بعض الأفعال التي تُصنف ضمن إطار “العادات والتقاليد”.
كانت ليلى تجلس بين زميلاتها، مجموعة متنوعة من الطالبات، كل واحدة منهن تحمل قصة مختلفة. كلمات الأستاذ أشعلت جدلاً حاداً بين الحاضرين، فتحولت القاعة إلى ساحة للنقاش حول الظلم الذي تعانيه المرأة تحت مظلة قوانين وُضعت لتقييدها أكثر مما تحميها.
رفعت ليلى يدها، قالت بحزم: أستاذ، كيف يمكننا أن نسمي هذا قانوناً ونحن نعلم أنه يحمي المعتدي أكثر مما يحمي الضحية؟ كيف يمكن أن تُعامل المرأة وكأنها مواطنة من الدرجة الثانية؟
ساد الصمت للحظات قبل أن تُعقّب زميلتها، التي كانت أكثر حذراً في آرائها: لكن هذه القوانين ليست وليدة اليوم، هي تعكس واقع المجتمع، وربما تكون أفضل وسيلة لضمان الاستقرار.
لم تتمالك ليلى نفسها وقالت بنبرة فيها غضب مكتوم: أي استقرار نتحدث عنه؟ الاستقرار الذي يبنى على الصمت والخوف؟ هل نسمي القوانين التي تسمح للقاتل أن ينال عقوبة مخففة لأنه قتل ‘بدافع الشرف’ قوانين عادلة؟ هل هذا مجتمع مستقر أم مجتمع يخاف مواجهة الحقيقة؟
انضمت ياسمين، إحدى زميلاتها التي كانت تعاني بصمت من عنف أسري، إلى النقاش وقالت بصوت منخفض لكنه عميق: أنا لا أعتقد أن هذه القوانين تعكس واقعنا فقط، بل هي من تصنعه. عندما يكبر الأطفال في بيئة ترى العنف ضد المرأة كأمر طبيعي، سيعيدون إنتاج هذه الدورة بلا توقف. التغيير يبدأ من هنا، من القانون.
مع الوقت، تحول النقاش إلى مناظرة مفتوحة بين الطالبات. بعضهن دافعن عن فكرة أن القانون لا يمكنه تجاوز الثقافة المجتمعية، وأن أي تغيير جذري سيواجه مقاومة عنيفة. لكن ليلى وقفت بثبات قائلة: القانون ليس مرآة للمجتمع فقط، بل هو أداة لتغييره. إذا استمرّينا في تبرير القوانين التمييزية بأنها انعكاس لثقافتنا، فلن نتقدم خطوة واحدة. نحن نحتاج إلى قوانين تحمي حقوق الجميع، لا تميّز بين المرأة والرجل، ولا تعتبر العنف شأنًا خاصًا أو عائلياً.
استمر النقاش طويلاً في القاعة وخارجها. كانت ليلى وزميلاتها يواصلن الحديث عن الأمثلة العملية، من مواد قانونية تسكت عن العنف ضد المرأة، إلى حالات حقيقية عايشوها أو سمعوا عنها. بالنسبة إلى ليلى، كانت هذه النقاشات بداية لمعركتها الخاصة. لم تكن تكتفي بالكلام، بل بدأت تقرأ وتبحث عن أمثلة من قوانين دولية ناجحة، وتحلل كيف يمكن تطبيقها في سوريا.
مع مرور الوقت، بدأت هذه النقاشات تؤثر على الكثير من زميلاتها. بعضهن بدأن يرين القانون من زاوية جديدة، والبعض الآخر شعرن بأن التغيير لا بد أن يبدأ من جيلهن. بالنسبة لليلى، كانت تلك النقاشات بمثابة أمل بأن الوعي يمكن أن ينمو حتى في أكثر الأماكن تحدياً.
في إحدى المحاضرات، قالت ليلى بصوت واضح للجميع: لن يتغير واقع المرأة في بلادنا ما لم نتحد نحن، الجيل القادم من القانونيين والقانونيات، لنعيد صياغة قوانين تنصفنا جميعاً. التغيير لن يكون سهلاً، لكنه ممكن، ونحن نملك القوة لبدء هذا التغيير.
كلماتها كانت تمثل أملاً لا ينكسر، ورغبة عميقة في تحقيق العدالة والمساواة، حلماً بيوم تُصان فيه حقوق النساء، ويصبح العنف والظلم مجرد ذكرى من الماضي، ليس فقط في النصوص القانونية، بل في تفاصيل الحياة اليومية.