(تنشر هذه المادة بالتعاون والشراكة بين مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات وحكاية ما انحكت)
سوزدار محمد
صحفية ومحررة من منطقة عفرين. تسكن حاليا في مدينة القامشلي
(القامشلي)، “فقدت الكثير بسبب الزواج المبكر، حرمتني الالتزامات الأسرية من عيش طفولتي، كنت لا أزال طفلة حين تزوجت، حرمت من التعليم، من الحب، لم أعش مرحلة المراهقة، حرمتُ حتى من الضحك”.
بهذه الكلمات تفتتح أم محمد (اسم مستعار/ ٤١ عاما) حديثها لحكاية ما انحكت، وهي بين أولادها التسعة على أطراف مدينة عامودا غربي مدينة القامشلي، بعد أن انفصلت عن زوجها الذي يكبرها بأكثر من عقدين.
أجبرت أم محمد، كباقي أخواتها، والتي تنحدر من بلدة العريشة بريف الحسكة، وهي في الرابعة عشرة من عمرها على الزواج من رجل لم تراه من قبل، يبلغ من العمر /36/ عاماً، لتقضي معه أكثر من /27/ سنة، ذاقت على مدارها العنف الجسدي والنفسي. فعلى “مدار /27/ عاماً لم تطرق السعادة باب حياتي”، ملخصة بهذه الجملة سنوات حياتها مع زوجها، فالحياة معه كانت “بلا طعم ولا لون”، على حد وصفها.
بعد عام.. أسئلة ووعي
كانت أم محمد في بداية زواجها غير واعية لمجريات حياتها وغير مدركة تماماً عواقب زواجها المبكر، إلا أنه وبعد مرور عام على زواجها، بدأت تعي أنها خسرت كل شيء في هذا الزواج، لتضيف بعد صمت دام بضعة ثواني، بنبرة تساءل: “يقولون إنّ الحب يأتي بعد الزواج، كيف لفتاة مثلي أن تحب رجلاً يكبرها بأكثر من عشرين عاماً؟”.
كان زوج أم محمد متزوجاً من امرأة قبل زواجه منها، وتزوج بعدها من امرأة أخرى، أنجبت منه تسعة أولاد على مدار تسع سنوات متتالية، دون أن يكون هناك فاصل زمني بين ولادة وأخرى، ما أثر على صحتها الجسدية، “وصل وزني إلى /39/ كغ من تأثير الإنجاب المتواصل”، تقول أم محمد لحكاية ما انحكت وهي تحاول حبس دموعها.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” ذكرت في إحصاء نشرته في 11 شباط/ فبراير 2019، أن نسبة زواج القاصرات تشكل نحو 21% من عدد الشابات، كما تتزوج سنوياً /12/ مليون فتاة دون سن 18 سنة.
ونوهت المنظمة إلى أن أكثر من /150/ مليون فتاة أخرى سيتزوجن قبل بلوغ الثامنة عشرة بحلول عام 2030، في حال عدم الإسراع بمعالجة هذا الموضوع.
خلافات وآثار
ونتيجة عدم اكتمال نمو أم محمد الجسدي والفكري حينها، واجهت العديد من الخلافات مع الزوج انتهت معظمها باستخدام الزوج العنف الجسدي والنفسي.
ذكرت منظمة الأمم المتحدة في إحصاء نشرته في 11 شباط/ فبراير 2019، أن نسبة زواج القاصرات تشكل نحو 21% من عدد الشابات، كما تتزوج سنوياً /12/ مليون فتاة دون سن 18 سنة.
وتؤكد الدراسات أن زواج القاصرات، يوّلد أزمات صحية واجتماعية ونفسية. حيث تؤكد أخصائية التوليد وأمراض النساء، جميلة أوسي، لحكاية ما انحكت، أن “الزواج المبكر يزيد نسبة الإصابة بمرض سرطان عنق الرحم بسبب وجود نسبة عالية من الخلايا غير الناضجة وسلوكها غير المحدد في عنق الرحم كون الهرمونات التناسلية غير مستقرة، بالإضافة لتهتك الجهاز التناسلي عند بدء العلاقة الزوجية وقد يحدث نزيف يتطلب مداخلة جراحية”.
وتشير أوسي إلى أنه عند حدوث الحمل، تتعرض الفتاة القاصر لعدد من المشكلات الصحية تتمثل في زيادة نسبة حدوث الإجهاض والولادة المبكرة قبل الأسبوع 36 بسبب خلل في الهرمونات الأنثوية ولعدم تأقلم الرحم غير المكتمل النمو، بالإضافة إلى زيادة نسبة الولادة بعملية قيصرية، منوهة أيضا إلى أنه الفتاة القاصر أكثر تعرضاً للوفاة أثناء الإنجاب بسبب مضاعفات الحمل.
آثار نفسية… وانتحار
الآثار السلبية لزواج القاصرات لا تقتصر على الجانب الصحي فقط، وإنما تتمثل أيضاً في الجانب النفسي، حيث توضح المستشارة النفسية والاجتماعية، كلستان حسين، لحكاية ما انحكت أن التأثير النفسي للزواج المبكر على الفتاة يتجلى من خلال أعراض تصيب أغلب الفتيات نتيجة الشده النفسية التي تتعرض لها، “فتصاب بعضهن بحالات هستيرية وحالات خوف وقلق واكتئاب، قد تتطور مع الزمن لأمراض نفسية مزمنة كالوسواس القهري والفصام، هذا في حال لم تنهي بعض الفتيات حياتهن بالانتحار أو جنوح بعضهن للإدمان”.
وهو ما تؤكده أم محمد إذ تقول وهي منهمكة بترتيب منزلها، بعد عودتها من عملها، أنها ذاقت الويل خلال سنوات زواجها، “فكان زوجني يضربني بين الحين والآخر، إلا أن أكثر ما كان يؤلمني هي الشّتائم والكلام البذيء والإذلال والتقليل من شأني والبصق في وجهي، كنت أحياناً أفكر بالانتحار لأتخلص من هذه الحياة”.
وتضيف المستشارة النفسية أن “الشدة النفسية التي تجد الفتاة نفسها فيها وكبر المسؤوليات الملقاة عليها، والتي باتت تواجهها بين ليلة وضحاها من طفلة تلعب في الزقاق إلى زوجة عليها تلبية احتياجات زوجها الجنسية، ولم يكتمل وعيها النفسي والجنسي بعد.. مما يولد تعنيف من قبل الزوج في علاقته بها في أغلب الحالات”، واصفة الزواج المبكر بـ “جريمة واغتصاباً لحق الطفولة”.
وتنوه المستشارة النفسية إلى أن الاضطرابات النفسية التي تعاني منها الأم نتيجة الزواج المبكر، تؤثر على الحالة النفسية للأطفال أيضاً، “إن الأطفال يعانون من اضطرابات الأم النفسية بشكل أشد وطأة منها”.
تمرّد بعد عشرين عاما
تقرر أم محمد بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على زواجها، أن تغير نمط حياتها وتضع حداً لكل العنف الممارس بحقها، وتحاول كسر بعض القيود المجتمعية، والتي كانت سبباً في حرمانها من حقوقها كالتعليم والميراث واختيار شريك حياتها والكثير من الحقوق الأخرى.
غادرت أم محمد مع أولادها التسعة قبل ست سنوات منزلها في العريشة، متجهة إلى مدينة عامودا، لتبدأ حياة تصفها بأنها كانت محفوفة بالصعوبات والمعاناة، فلا سكن يأويها ولا عمل تعيل به أولادها، فلجأت إلى بناء خيمة على أطراف مدينة عامودا وسكنت فيها مع أولادها.
بدأت أم محمد تضع اللبنة الأولى لحياتها الجديدة، تعمل في البساتين والأراضي الزراعية لقاء أجر تعتمد عليه في إعالة أولادها، “كنت أعمل ليلاً نهاراً لأتدبر أموري المعيشية وأعتمد على نفسي دون مساعدة أحد”، تقولها أم محمد هذه المرة بنبرة تولد انطباعاً ملحوظاً بالثقة في النفس.
بعد عملها أربع سنوات في أعمال الزراعة، بدأت أم محمد تعمل في قسم النظافة في مشفى خاص بمدينة عامودا، لتقوم بعد ادخارها مبلغ من المال بإيجار منزل لها ولأولادها في المدينة، “عملت وتعبت لأغير شيئاً في حياتي وأؤمن حياة أفضل لأولادي”.
عادات وتقاليد… وحالات تم إبطالها
تقول نوروز أسعد جمعة، وهي إدارية من مجلس عدالة المرأة في روج آفا، إن “ما لا يقل عن ثماني حالات للزواج القاصر تسجل شهرياً في إقليم الجزيرة، وأحياناً تصل إلى عشرة حالات”، مشيرة إلى أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى ذهنية المجتمع الذي تتحكم به العادات والتقاليد.
وتنوه نوروز إلى أن الزواج القاصر شائع أكثر بين الفتيات اللواتي لم يلتحقن بمقاعد الدراسة أو اللواتي لم يكملن دراستهن، لافتة إلى أن نسبة الزواج القاصر “انخفضت بنسبة قليلة بدءاً من العام 2017″، على حد قولها.
وعن كيفية مواجهة ظاهرة الزواج القاصر، تشير نوروز إلى أنهم يعملون من خلال أكاديميات مجلس عدالة المرأة على تدريب وتوعية أعضاء المجلس “ليتمكن من لعب دورهن في توعية وتغيير ذهنية المجتمع، كونهن من يتعاملن بشكل يومي مع هذه الظاهرة”.
وتنوّه نوروز أن هناك حالات للزواج القاصر تم إيقافها من خلال زيارة العائلات من قبل أعضاء “بيت المرأة” وتوعيتهم على أضرار الزواج القاصر، “لكن في حال تم الزواج، فيتم اتخاذ إجراءات قانونية، حيث يتم سجن ولي أمر الفتاة لمدة سنة، بالإضافة لفرض غرامة مالية ويبطل الزواج، كما يتم سجن الشيخ الذي عقد القران”.
تختزل قصة أم محمد آلاف القصص التي تمثل واقع زواج القاصرات في مجتمعنا، والذي تلعب فيه العادات والتقاليد والموروثات دوراً كبيراً في حرمانهن من عيش طفولتهن، وتشكل الصورة النمطية لها، لذا يتوجب التحرر والتخلص من تلك العادات البالية ومحاولة التحليق خارج السرب.
“العادات المجتمعية في المحيط الذي كبرت فيه يصعب تغييرها، والرجل هو سيد كل شيء، إلا أنني أنقذت نفسي وأولادي من وحل تلك العادات”، تختم أم محمد حكايتها، وهي تؤكد أن ما تبقى من عمرها لن تقضيه كما كان في السابق.
يعاد نشر هذه المادة كمشاركة من شبكة الصحفيات السوريات مع حملة ما رح أسكت